شعار قسم مدونات

أوراق عائد من أفغانستان (10).. أزمة العمل الصحفي بأفغانستان!

blogs كابل مدينة تعجب المتسولين

لا يقتصر التأثير في الأزمة الأفغانية على الجارتين إيران وباكستان فالبلد يجاور دولا نووية متناقضة ومتصارعة كالهند وباكستان والصين وإيران وبه أكبر القواعد العسكرية الأمريكية والأجنبية وهو ممر استراتيجي بين من شرق آسيا نحو الغرب كما أن روسيا التي تلقت ضربة موجعة جدا في العهد السوفياتي ومازالت مقبرة دباباتها في ضاحية كابل شاهدة على هزيمتها تتمتع أيضا بنفوذ قوي بالبلاد وتلعب أوراقها هناك بدهاء ولا أدل على ذلك اتهامات قائد القوات الأمريكية لروسيا بمحاولة شرعنة طالبان.

 

وفي الحقيقة تحمل روسيا ثأرا قديما من عهد الحرب الباردة حيث كان المجاهدون يسبحون بحمد أمريكا والسعودية ويجاهدون السوفيات قبل أن يتم اعتبارهم متطرفين بعد جلاء السوفيات وإرهابيين لاحقا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وفي الوقت الحالي تبحث واشنطن عن حليف يقف في وجه الصين والسوفيات وإيران وحتى ثقتها بحليفها باكستان مهزوزة.. فبقاء أمريكا في المنطقة يرجع لقطع طريق الحرير القديم أمام الصين وإثارة البلبلة في بلوشستان حتى لا تتمكن الصين من الاستثمار بأمان في ميناء غوادر الباكستاني.

 

إنها السياسة القذرة التي لا يفهم المواطن الأفغاني البسيط تفاصيلها ويعيش أجواءها الموبوءة يوميا.. ففي اليوم التالي من التفجير الانتحاري الذي استهدف تجمع الدعاة الأفغان وصلتني في الصباح الباكر رسالة على الواتس اب رسالة من زميلي حميد الله يعتذر فيها على التأخر في الحضور إلى الدوام لأن زميله في الدراسة قتل خلال التفجير الانتحاري. هذا الرجل الذي ينحدر من شرقي البلاد كان ينتظر سيارة تنقله من الجامعة وصادف وجوده مع قدوم الانتحاري فتطاير جسده إلى أشلاء. وفي أفغانستان.. يكفي أن تكون في المكان الخطأ أو الوقت الخطأ لتلتحق بركب الأموات وتصبح رقما في نشرات الأخبار ثم تحال إلى ذاكرة النسيان بعد أن يهيلوا التراب على جثتك المتفحمة.

 

حقول نبتة الخشخاش التي ينتج منها الأفيون تغزو المساحات الزراعية الأفغانية وتتوسع لتجعل من هذا البلد الأول عالميا في إنتاجه

يعيش الأفغان حالة فقر بالغة التعقيد ويعتبر دخلهم السنوي من بين الأقل عالميا كما لا يصرف الأفغاني على صحته سوى ما قيمته خمسة دولارات في العام الواحد. وعلى ذكر الصحة فالمرض ممنوع في أفغانستان لأن الأفغاني لا يجد تأمينا لتغطية مصاريفه الصحية كما أن سبعين بالمائة من الأدوية المتوفرة في السوق مغشوشة ويمكن أن تزيده مرضا على مرض. أما ذوو المداخيل المرتفعة والأثرياء فيتجهون إلى الهند لمتابعة علاجهم في ظل غياب منشآت صحية تكفل العلاج السليم للغلابى.

 

في إطار عملنا الصحفي ورغبة منا في نشر ثقافة التفاؤل وتشجيع المشاريع الناجحة سعينا لتصوير تقرير في ضاحية كابل عن أحد مصانع الأدوية التي تستعمل الأفيون لإنتاج أدوية التخدير كالمورفين أو تنتج من الداء دواءا وكم كانت خيبتنا كبيرة حينما وجدنا العمال أمام مدخل المصنع بمآزرهم البيضاء. ولما استفسرنا عن السبب قيل لنا إن آلة الإنتاج معطلة ويتطلب تصليحها أياما طويلة. في هذا البلد تلاحظ أن أغلب المشاريع الجميلة إما عاطلة أو منكوبة.. فمنتجات الزراعة صعب تسويقها وسقيها وجني أموال من وراءها إلا أن حقول نبتة الخشخاش التي ينتج منها الأفيون تغزو المساحات الزراعية الأفغانية وتتوسع لتجعل من هذا البلد الأول عالميا في إنتاجه. وينتظر أن يبلغ محصول هذا العام يبلغ تسعة آلاف طن وهو ما يمثل حوالي ضعف منتوج العام الماضي.

 

تتغذى هذه الزيادة من استمرار الفساد الذي وجد حضنا دافئا في ظل استمرار الاضطراب الأمني. وحسب مصادرنا فإن الكثير من المزارعين الأفغان وجدوا أن ما يجنونه من زراعة الخشخاش يدر عليهم أرباحا مجزية ولا تقارن بما ينتجونه من محاصيل زراعية. والغريب أن تسويق المخدرات لا يواجه تعقيدات مالية ولوجستية مستعصية مثلما يواجهه تسويق المنتجات الزراعية ولا أدل على ذلك ترتيب البلد الأول عالميا إذ أنه ينتج تسعين بالمائة من الاستهلاك العالمي لهذه المادة. ولا يتسع المجال هنا للحديث عن الأعداد الهائلة للمدمنين في البلد.

 

ومن بين المشاريع الجميلة التي لفتتنا لمحاربة آفة انتشار المخدرات تطوير مجموعة من النساء الأفغانيات غربي البلاد للعبة هدفها تقليص المساحات المزروعة من المخدرات في البلاد وتدعو هؤلاء النساء إلى استبدالها بمنتوجات زراعية أنظف وأحسن من الأفيون مثل الزعفران ذائع الصيت. لكن ما يصدمني ولم أجد له جوابا هو أن أغلب أصحاب مزارع الخشخاش ملتزمون دينيا وذوو لحى طويلة يفترض أن ينعكس التزامهم الديني على نشاط بيعهم السموم لبني البشر إلا أن ضغط الفقر وجاذبية المال أقوى من أن تكبحهم.

 

يعتبر العمل الصحفي أو التصوير في أفغانستان جانبا آخر من التحديات التي يمكن أن يواجهها الصحفي.. كنت أتصور أن سعينا لتصوير تقرير حياة سائق سيارة أجرة في كابل وإبراز معاناته مع الزحام وإغلاق الطرقات أشبه بالنزهة إلا أن الأمر لم يكن بتلك السهولة إذ تفطن رجال المخابرات لوجود كاميرا داخل السيارة وأوقفونا وفتشوا ثم اقتادوا زميلنا المصور ذبيح الله بعنف إلى المخفر للتحقيق معه لساعات ثم أطلقوا سراحه بعد مساع حثيثة لزميلنا المنتج لإطلاق سراحه. ورغم ذلك ينبغي الاعتراف بأن العمل الصحفي في أفغانستان مفتوح إلى حد بعيد إذا قارناه بدول يكون حمل الكاميرا للتصوير فيها أشبه بالجريمة خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار حالة الحرب التي يشهدها البلد منذ سنوات.

 

خلال تصوير التقارير أو الوقفات أمام الكاميرا لا ينبغي إغفال الجانب الأمني في الموضوع ولا ينبغي الإطالة في المكان نفسه ففي أحد الأسواق راعني مشهد أطفال يعملون سقاة للخضارين ويزودونهم بالمياه التي يرشونها على منتجاتهم الزراعية لتحافظ على نضارتها.. كانوا يحملون دلاء كبيرة بسواعدهم النحيلة ويلهثون وراء لقمة عيش لم يتسن لعائلاتهم توفيرها لهم. أعددنا العدة لتصوير حياة هؤلاء الأطفال ضمن تقرير خاص بذكرى مكافحة عمالة الأطفال التي تصادف الثاني عشر من يونيو من كل عام إلا أن الوضع في السوق كان مختلفا وتعبنا كثيرا من تجمع الناس حولنا وفضلنا مغادرة المكان حفاظا على سلامتنا.

 undefined

وبعدها أمضينا ما يقارب الساعتين من البحث عن طفل عامل في كابل وكانت معرفة المصور بأماكن وجودهم حاسمة في تحويل وجهة تقريرنا حيث وجدنا طفلا يبلغ من العمر أربعة عشر عاما يشتغل ميكانيكيا منذ عامين بأحد المستودعات لإعالة أسرته. كان يستيقظ باكرا للالتحاق بالورشة على السابعة صباحا في الوقت الذي يستيقظ فيه أقرانه في بلدان أخرى على قبلات أمهاتهم تأهبا لذهابهم إلى المدرسة.

 

إحصائيات منظمة اليونسيف صادمة في الموضوع إذ تشير إلى أن ربع أطفال أفغانستان من الذين تبلغ أعمارهم بين الخامسة والرابعة عشر يعملون لكسب لقمة العيش أو لمساعدة أسرهم المعوزة كما أن إحصائيات أفغانية تعود إلى عام ألفين وثلاثة عشر تشير إلى تعرض 29 بالمائة من الأطفال العاملين لإصابات جسدية وحوادث عمل. وأمام هذا الوضع تبقى الحكومة الأفغانية عاجزة عن ضبط المخالفات أو منعها فضلا عن توفير تعليم نوعي ومنحة تقي أهاليهم شر التسول.

 

ولم تكن الندوة التي دعتنا إليها منظمة اليونسيف بكابل لتقدم شيئا جديدا في الموضوع عدا مجموعة الإحصاءات الصادمة والمعلومات الحزينة عن وضع التعليم في البلاد وعزوف الأطفال عنها بسبب الفقر والحرب. حضر المسؤولون وقدموا أرقامهم وصفق الحاضرون ثم انصرفوا بملف صحفي يحمل أرقاما مطبوعة في أوراق لينشروها في صحفهم ومجلاتهم وفضائياتهم علها تحرك شيئا في وجدان قرائها ومشاهديها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.