شعار قسم مدونات

قوامة للرجل أم سعي لفرض السلطة المطلقة على النساء؟

blogs صراخ زوج

مر علي في صفحتي العامة مشاركة أحدهم الداعمة لمنشور كتبه شخص عن "حقوق الزوج" بصيغة "السلطات" التي يملكها على زوجته، وكان قد استند في خطابه على المرجعية "الدينية" كما يحدث مرارا وتكرارا مع الأسف. بعدها بيوم بعث لي شخص آخر على قائمتي رابط منشور كتب ردا على اللغط الذي أثاره المنشور الأول، بنبرة دينية أيضا، يريدها صاحبها "معتدلة" بديلة عن الأولى لكن الاشكال فيها برأيي كان أنها مجرد تغليف خارجي للأولى وكلاهما ينطلق من مسلمة السلطة بالذكورة. والحقيقة أني عشت زمنا طويلا بنظرة أن الدافع لمثل هذه الأفكار هو الفهم الخاطئ للدين، حتى سمعت آراء أشخاص غير مسلمين أو غير متدينين من مختلف بلدان العالم الثالث التي تعيش جهلا وتخلفا وقهرا، حول الموضوع نفسه وكانت مفاجأتي أنها متطابقة تماما مع فارق غياب اتخاذ الدين مبررا وخلفية.

بعد أن قضيت سنوات أغضب وأثور بشدة لمثل هذا الطرح الذي كنت أتناوله من زاوية "قضية المرأة"، صرت الآن أنظر بعين الشفقة والأسى لمجتمعات يعاني الفرد فيها عقدة مركبة من موضوع السلطة… تعسف في استعمال السلطة يمارس عليه من جهات مختلفة، يصل به في النهاية للبحث عن ضحية ينفس فيها عما سلط عليه، محاولا دوما إيجاد سند ومبرر يستمد منه شعورا ب "قانونية" هذا التسلط، الذي يبدو أنه يصير مصدر احساسه الأساسي بالقيمة والجدوى في هذه الحياة. وانتبهت أن وجود الأنثى عادة في الحلقة الأضعف لسلسلة السلطات هذه لا يعني أنها لا تمارس الشيء ذاته حين يتسنى لها الأمر مع من تعتبرهم في تراتبية سلطوية أقل منها، الأبناء، الكنة، عاملة النظافة ومن تمكنها وظيفتها -ان كانت عاملة- من الاستبداد بهم، أو غير ذلك.

توقفت عن الحديث باسم المرأة! جردة خفيفة على 30 سنة مرت من عمري تجعلني أجيب دون لحظة تردد أن الأذى الذي تعرضت له في حياتي، كان خلفه بأغلبية ساحقة نساء… وقد كان أكبر اكتشافاتي خلال السنتين الماضيتين وأنا أعيد فرز وبناء رؤاي في الحياة، أن الوضع غير الكريم لعموم النساء في مجتمعاتنا ليس سببه انعدام خيار آخر أمامهن، وانما عدم رغبتهن في أخذ الخيار الصعب.. عدم استعدادهن لدفع الثمن الذي تستوجبه حياة أكثر كرامة.

لا أعرف ما تعنيه الحياة مع شخص عليك أن تشرح له وتقنعه أنك إنسان مثله، بنفس قدر الكرامة وعزة النفس التي يملك وربما أكثر، لا تقبل ما لا يمكنه هو تقبله على نفسه قولا وفعلا

نساء قرون الانحطاط الأخيرة لا تشبهن في شيء خديجة بنت خويلد مثلا، التي تركت كل حياة الرغد والسيادة والجاه والنفوذ واختارت التجرد من كل امتيازاتها بل وحتى الكثير من الأساسيات لأجل ما آمنت به.. امرأة قوية وعزيزة اتجهت بكامل ارادتها لخيار يحفه الخوف والجوع والموت بعد أن كانت سيدة آمرة ناهية في قومها. خيار حفظ لها مكانة دينية وتاريخية لا ينازعها فيها أحد الى يوم الدين. خديجة هي النموذج الأول والأهم للمرأة المسلمة، لم تكن مجرد زوجة للنبي وانما ركيزة للإسلام وقوة تأثير ساهمت في تغيير وجه البشرية الى الأبد، فضلها علينا قائم الى يوم البعث. وهي بعيدة كل البعد عن نموذج الأنثى الذليلة المنقادة المأمورة المضروبة التي ترغم على تقديم جسدها بعد امتهان وتحقير كي لا تبات الملائكة تلعنها! النموذج الذي يفصله الكثير من الفقهاء لمعايير "الزوجة الصالحة".

نساء قرون الانحطاط الأخيرة على عكس خديجة فضلن على الطريق الصعب والمضني الذي سلكته هي، بدائل كالمكر والكيد والخبث والخداع لبلوغ أغراضهن، ولاكتساب أشكال أخرى من وهم السلطة الذي يبدو أنه يشكل هاجسا ملحا لدى شعوب رضي أفرادها الخضوع لنظم سياسية واجتماعية ودينية مبنية على القمع والتهميش مقابل أن يجد كل منهم طبقة أضعف يمارس عليها السحق الذي يمارس عليه… ووحدهم صفوة الصفوة من يستطيعون كسر هذه الدارة المرضية باحثين عن صيغة عيش ترتكز على التكامل والتقدير المتبادل، مدركين أن الجنس البشري لا يمكن أن يرتقي ويتطور دون أن يكون هناك اعتراف بالإنسانية الكاملة والأهلية التامة للبشر على اختلاف جنسهم أو عرقهم أو دينهم. أعتقد أن الإفلات من حلقة الوهم الخبيثة هذه لا يكون الا ببلوغ درجة الوعي والنضج الكفيلة بالترفع بصاحبها عن اللهاث خلف محاولات فرض سلطة أو وصاية عقلية، مادية، أخلاقية أو دينية كانت على شركائه في الحياة وعلى رأسهم الأطفال الذين تؤدي تربية الاجبار والاقصاء التجهيلية لدمجهم مبكرا جدا في رحى الدمار الصامتة هذه.

قد نكون أكثر الشعوب التي تردد أن "المسؤولية تكليف لا تشريف" لكننا قطعا أقل الشعوب وعيا وتطبيقا لذلك، كل على مستواه. في التشريع الإسلامي لا تعطى الولاية لمن يطلبها، لأن سعيه لها يدل على عدم وعيه وتقديره لجسامة التكليف والمسؤولية وما يؤدي له ذلك بالنتيجة لعظيم المساءلة الدنيوية والإلاهية، ومن يدرك هول الأمر وعبئه لا يمكن أن يفاخر بتقلده لأنه يرى فيه مغرما لا مغنما ومهلكا لا ترفا، وهو من هذا الباب يعي تلقائيا أن أمر الطاعة (من الطوع الذي هو عكس الكره) الذي وضع للأمور المصيرية والخطيرة، والذي يأتي كأداة حسم بعد الشورى، ما هو الا الرديف المنطقي للمحاسبة التي يتعرض لها من ولي المسؤولية سواءا أكانت المحاسبة دنيوية أو إلاهية، وأن اللجوء لهذه الأداة يبقى في حدود ضبط القيادة بيد واحدة في الأوضاع الحرجة وليس بأي شكل من الأشكال وسيلة تسلط، قمع، اذلال أو ابتزاز ديني وعاطفي، ناهيك عن أن تكون دافعا للشعور بالزهو أو دونية الغير أو الاستكبار.

إن الذكر الذي يثور وينتفض ويحتج على ولي أمره الذي يستعمل الكثير من رجال الدين وبعض النصوص الفقهية للتلويح في كل آن بسلطاته وحق الطاعة له ومنكر الخروج عليه والتهديد بالوعيد الإلاهي (الذي يشير ضمنيا لوعيد دنيوي على يديه) في حال مخالفة أوامره وعدم تقديم فروض الطاعة والانقياد والاذعان كاملة له، ويمطرك في كل مناسبة بعظيم أفضاله عليك وخرافية إنجازاته التي تحيطك وخطر غياب الحماية والأمن الذي لا يمكن أن يوفرها إلا هو لك، هو نفسه الزوج الذي يستخدم نفس النصوص وفتاوى نفس الفقهاء للتلويح بنفس السلطات ونفس حق الطاعة ونفس ما يقتضيه منكر مخالفته مع صيغ مقاربة من التهديد والوعيد الإلاهي والدنيوي، ويمطرك بنفس خطب المن والترغيب والترهيب.

القوامة في الولاية العامة أو مناصب المسؤولية أو الإدارة أو الزواج أو الأمومة تأتي كنتيجة تلقائية لإثبات الأفضلية والنضج والقوة والقدرة على تحمل المسؤولية والاحتواء والقيادة السديدة
القوامة في الولاية العامة أو مناصب المسؤولية أو الإدارة أو الزواج أو الأمومة تأتي كنتيجة تلقائية لإثبات الأفضلية والنضج والقوة والقدرة على تحمل المسؤولية والاحتواء والقيادة السديدة
 

غير أن الفارق جوهري هنا، يمكنك في أي لحظة إطفاء التلفاز أو حتى تهشيمه وحفظ مالك من شراء الجرائد والكف عن خوض النقاشات "السياسية" لتنتهي من سماع خطب ولاة الأمر المبهجة، لكن الأمر ذاته لا يمكن أن يحدث مع أسطوانة زوج يقاسمك السقف نفسه والفراش ذاته.. خطبه تتكرر بوتيرة غير منقطعة، لا تلتزم بأعياد وطنية أو مناسبات رسمية، ويأخذ محتواها في التنفيذ حيز خنق أكبر بكثير بما أنها تفرض وصاية ملازمة لكل حركة أو حرف أو فعل يمكن أن يصدر منك، وتصيرك لكائن مسلوب الإرادة والقرار تماما. الأنثى ذاتها التي تعايش ذلك كله تستلم المشعل يوما لتقيد وتضطهد أبناءها بسلطة "بر الوالدين"، تلوح وتهدد لفظيا أو ضمنيا بوعيد "العقوق" والخروج عن الطاعة، وكثيرا ما يتعدى تعسفها هذا على زوجات الإخوة والأبناء وحتى الأحفاد.

أنا لا أعرف ما تعنيه الحياة مع شخص عليك أن تشرح له وتقنعه أنك إنسان مثله، بنفس قدر الكرامة وعزة النفس التي يملك وربما أكثر، لا تقبل ما لا يمكنه هو تقبله على نفسه قولا وفعلا، كامل الأهلية العقلية والنفسية مثله، وأن تعاملك بمسؤولية وأخلاقية مع مساحة حريتك لا يتعلق بجنسك وانما بمنظومتك القيمية ذكرا كنت أم أنثى، وأن صونك لشرفك (بالمعنى الواسع للكلمة) لا يتم بربطك لعمود في الزريبة. لكن ما أعرفه تماما هو أني لست مولعة بدور كلب الراعي الذي يحيا على وظيفة النباح خلف الغنمات التي يشتبه أنها قد تشرد من الطريق التي درب على السير بها، ويشعر بزهو السلطة من وظيفته تلك، فيحرص على رفع النباح عاليا على توكيدا لهذه السلطة.

القوامة في الولاية العامة أو مناصب المسؤولية أو الإدارة أو الزواج أو الأمومة تأتي كنتيجة تلقائية لإثبات الأفضلية والنضج والقوة والقدرة على تحمل المسؤولية والاحتواء والقيادة السديدة. كلنا متعب ويبحث عمن يحمل عنه، ويكفي أن نجد من هو جدير بالثقة والاحترام، من جرب نبله وعدله وكرمه وحكمته ورشده لنسلمه جل أمورنا طوعا لا كرها… ولا أعتقد أن قواما بهذه المواصفات يمكن أن يظهر في صورة شخص يصرخ ويندد متبجحا بالسلطة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.