شعار قسم مدونات

إذا أصبح الثائر نسخة عن جلاده!

blogs ثورة

كنت أدرك جيداً أن ثمن الحرية في بلادي باهظاً وأن الوصول إلى الفجر المنشود لن يكون من السّهولة بمكان، ولكنني قدّرت أن المظلوم لا يمكن أن يملكَ أداة قوة تعينه على انتصار قضيته أكثر من عدالتها، وأن الحق وحده هو الذي ينفخ الرّوح في الأجساد المتعبة فيحيلها إلى أعاصير تمشي على الأرض، وإلى جبال شاهقة لا تستطيع قوة في الوجود أن تزحزحها.

وكلما فترت همّتي وشعرت بالتّردد يتسلّل إلى حنايا روّحي ويطبق الحصار حول أحلامي نظرت حوليي فوجدت آلاف المشاهد التي تمدني بالقوة، وتنّفث بيّ روح الأمل وعنفوان البطولة، لكنّي لم أكن أتخيل للحظة واحدة أن الإنسان يمكن أن تستأثر فيه حصيلة الأفكار البالية والتّربية المنحرفة وأن الثائر يمكن أن يكون في لحظة من اللحظات نسخة عن جلاده.

حتى هذه اللحظة وبعد سبعة أعوام وأنا حائر في وصف الحالة التي وصلنا إليها، ففي العام الأول من الثّورة كنت أظن أن الحالة المثالية التي يمكن أن تتصف فيها ثورة في الوجود هي التي أنعم الله بها علينا، وأن ما نحن فيه من رغد الثّورة ولذّة الظّفر لا يمكن أن يكدر صفوه أسىً في الدّنيا حتى لو وهبنا أنفسنا للثورة عن بكرة أبينا، بل وكان كلّ واحد منّا ينعم بالموت ويحتفي به حفاءه بالحياة فكما أن الحيّ منّا يرقب فجر الحرية فإن الميّت يدرك أن دماءه لن تكون هباءً منثوراً إنما ستكون قبساً يزداد بها لظى الثّورة حتى يعمّ نورها كلّ الظّلمات التي خلّفها الغاصبون في بلادنا.

خبى صوت المصلحين ونبذ المتقون واختلط الحّق بالباطل وتحول الإنسان من ثائر على الظّلم إلى ثائر في وجه من يُخالف ما يعتقده وما يفكر فيه، لينتهي المطاف إلى حالة من التشتت والخراب تُسفك فيها الدّماء

ثم مع تتابع الأحداث بدأتْ خبايا النّفوس تتجلى واضحةً تحتْ أشعة شمس الحقيقة السّاطعة فكما هي التّجارب في عادتها لا تدعُ للشّك مكاناً وتكشفُ الذّهب على حقيقته وتُظهر النّفوس على أصلها، وفي المحن والحروب لا تجد النّفس البشرية سبيلاً لأن تُخفي شيئاً وتبدي آخر، إنما تظهر دفعة واحدة على الطّبيعة التي فطرت عليها، إذ لو كان الحال غير ذلك لما استطاع حاذق أن ينفذ إلى حقيقة مدّعِ ويعرّيها إلى الوجود كما تفعل الثورة في المجتمعات التي تولد فيها، فتضع الجميع أمام حجمهم الطبيعي وتثبت لهم أن مواجهة الظّالم لا تقفّ عنّد التّشهير بظلّمه إنما تحتاج لقول الحّق لا مواربة فيه ولا تردد.

لم يدر في خلدي أن الإرث الفكري والثقافي والاجتماعي الذي يورّثه الطّغاة أشدّ مرارة وألماً من كلّ الجرائم التي يرتكبونها، حيث أن اغتصاب البلاد واستعباد الشّعوب ونهب مقدراتها لا ينبري عنه إلا مزيداً من الإصرار على المطالبة بها والتّطلع للحصول عليها أي كان ثمن ذلك، لكن النّفاذ إلى عقول الناس ونفوسهم لا يمكن أن يُدّرك خطره وأثره حيث أن أساس دمار الحضارات الإنسانية يبدأ من تخريب منظومتها الفكرية والثقافية والاجتماعية وتركيبها على أسس قوامها الجهل والتّخلف والانحطاط، ثم إذا ما أقبلت الدّنيا على الأشخاص الذين عبّوا من هذه الثّقافة الفاسدة وتشرّبوا من هذه الأفكار البالية تطفوا غرائزهم وتنموا ويغرق المجتمع في بحر من الظّلمات تحركه الغرائز وما جبلت عليه النّفوس من حبّ الدّنيا وإغواء الجاه والمال والسّلطة.

ولعل أكثر الأهوال هي أن يصل الإنسان إلى الحالة التي لا يتميز فيها بين العدو والصديق ويتحول الميزان الذي توزن به الأشياء من أساس القيمة والمبدأ إلى أساس المصلحة المطلقة فيصبح المجتمع أسيراً لما يؤسس له المتنفذون فيه وأصحاب السّلطة والقوة ويسير الناس بناء على ما يلتقي مع مصالحهم وآرائهم، وتتحول القيمة إلى غطاء تغلّف به الأشياء وتسوّق على أنها عائدة إلى صفاء الفكرة الأولى. فيخبوا صوت المصلحين ويُنبذ المتقين ويختلط الحّق بالباطل ويتحول الإنسان من ثائر على الظّلم إلى ثائر في وجه من يُخالف ما يعتقده وما يفكر فيه، لينتهي المطاف إلى حالة من التشتت والخراب تُسفك فيها الدّماء وتنتهكُ الأعراض ويصبح الظلم شعار يحكم الجميع.

والانتصار اليوم ليس في السلاح وفي المعارك العسكرية إنما في إصلاح القاعدة الفكرية التي أودت بكل شيء وجعلت منه عبئا ثقيلا على المجتمعات الثائرة بأكملها وحولت الناس من حماة للعرض والدين والوطن إلى جلادين جدد يقتلون ويُقتلون من غير هدى ولا رشاد ومن غير أن يدرك الواحد منهم أية غاية يحقق وأي هدف يخدم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.