شعار قسم مدونات

أخلاق القول والفعل.. هذا ما يميز الإنسان عن البهائم!

blogs مصافحة سلام

لا تخرج الأخلاق عن كونها هيئة راسخة في النفس، ورسوخها مبني على استمرارها في الزمن دون أن يكون هناك إكراه يجبر صاحبه على ممارسة سلوك التخلق، فالتخلق جبلي وكسبي. الجبلي ما فطر جميع الخلق عليه، والكسبي ما كان منشأه التعلم والتقليد، والمجاهدة في عرف المنظومة العرفانية الصوفية. وإن المتأمل لفكر محي الدين ابن عربي الصوفي، يجده لم يخرج عن هذا المعنى حيث يقول "إن الخلق هو حال النفس، بها يفعل الإنسان، أفعاله بلا رویة ولا اختيار. والخلق قد يكون في بعض الناس غريزة وطبعا، وفي بعضهم لا يكون إلا بالرياضة والاجتهاد، كالسخاء، يوجد في كثير من الناس من غير رياضة، ولا تعمل، وكالشجاعة والحلم والعفة والعدل، وغير ذلك من الأخلاق المحمودة. وكثير من الناس يوجد فيهم ذلك بالرياضة. ومنهم من يبقى على عادته ويجري على سيرته".

 

ومنه فإن الانتقال من أخلاق فطرية موجودة بالغريزة والطبع لا تعمل أو ما سميته بأخلاق القول، إلى أخلاق مكتسبة بالرياضة يتم تفعيلها والعمل بها، وهي ما سميته بأخلاق الفعل. لن يكون متاحا كما يقول ابن عربي إلا لمن "كانت له همة تسمو إلى مباراة أهل الفضل، ونفس أبية، تنبو عن مساواة أهل الدناءة والنقص، وتدل على طريق الارتياض بالمحمود من أنواعه، والتدرب به، وتنكب المذموم منها وتجنبه، حتى يصير المرتضى به ديدنا وعادة وسجية وطبعا ليهتدي به من نشأ على الأخلاق السيئة وألفها، وجرى على العادات الردية وأنس بها".

أخلاق القول:

وأخلاق القول هي الأخلاق التي أصبح المخيال الجمعي يتوسمها، وهي كل خلق سيء تخلق به كل إنسان، تارك للطبع كل الحرية في قيادته، ليصبح الطبع غالب لأن "الإنسان إذا استرسل مع طبعه، ولم يستعمل: الفكر، ولا التمييز، ولا الحياء، ولا التحفظ، كان الغالب عليه أخلاق البهائم، لأن الإنسان إنما يتميز عن البهائم بالفكر والتمييز. فإذا لم يستعملها، كان مشاركا للبهائم في عاداتها، والشهوات مستولية عليه، والحياء غائب عنه، والغضب يستنفره، والسكينة غير حاضرة له، والحرص والأحقاد ديدنه، والشر لا يفارقه" كما يقول ابن عربي.

النفس الشهوانية قوية جدا متى لم يقهرها الإنسان ويهذبها ملكته فاستولت عليه فإذا تمكنت هذه النفس من الإنسان وملكته وانقاد لها كان بالبهائم أشبه منه بالناس

ويمكن إجمال أخلاق القول كما جاءت في الفكر الأكبري على المنوال التالي:

الأخلاق المذمومة: وهي "موجودة في مجموعة من الناس كالبخل والجبن والظلم والشر" وهي "عادات غالبة على أكثر الناس، مالكة لهم"، "فالناس مطبوعين على الأخلاق الردية، منقادون للشهوات الدنية. ولذلك وقع الافتقار إلى الشرائع والسنن، والسياسات المحمودة". التي يمكنها أن تخرج القائل بهذه الأخلاق أي أخلاق القول، من جحيم الدوابية إلى تخلق الملائكية، فكانت الشرائع والسنن السماوية والسياسات التشريعية هي الضابط والمقوم لأخلاق القول الشهوانية الدنية، لأن النفس كما يقول ابن عربي "صارت خرساء بالطبع الحيواني فلا تفصح عن سر من الأسرار الإلهية المودعة فيها، لكونها بشرية بحكم الطبع في قيد الجسم وحصره". فكان أساس صلاح أخلاق القول صلاح هذه النفس الدنية التي يقسمها ابن عربي إلى النفس الشهوانية، والنفس الغضبية، والنفس الناطقة.

فأما النفس الشهوانية: "فهي للإنسان ولسائر الحيوان وهي التي يكون بها جميع اللذات والشهوات الجسمانية كالإقدام إلى المآكل والمشارب والمباضعة، وهذه النفس قوية جدا متى لم يقهرها الإنسان ويهذبها ملكته فاستولت عليه فإذا تمكنت هذه النفس من الإنسان وملكته وانقاد لها وكان بالبهائم أشبه منه بالناس لأن أغراضه ومطلوباته وهمته تصير أبدا مصروفة إلى الشهوات واللذات فقط وهذه هي عادات البهائم… ومن تنتهي به شهواته الى هذا الحد فهو أسوأ الناس حالا وهو من الأشرار الذين يخاف خبثهم… وأما من ملك نفسه الشهوانية وقهرها كان ضابطا لنفسه عفيفا في شهواته محتشما من الفواحش متوقيا من المحظورات محمود الطريقة في جميع ما يتعلق باللذات فالعلة الموجبة لاختلاف عادات الناس في شهواتهم ولذاتهم وعفة بعضهم وفجور بعضهم هو اختلاف أحوال النفس الشهوانية فإنها إذا كانت مهذبة مؤدبة كان صاحبها عفيفا ضابطا لنفسه وإذا كانت مهملة مرسلة مالكة لصاحبها فاجرا شريرا وإذا كانت متوسطة الحال كانت رتبة صاحبها في العفة كرتبتها في التأدب".

وأما النفس الغضبية: "فيشترك فيها أيضا الإنسان وسائر الحيوان وهي التي يكون بها الغضب والجراءة ومحبة الغلبة وهذه النفس أقوى من النفس وأضر بصاحبها إذا ملكته وانقاد لها فإن الإنسان إذا انقاد للنفس الغضبية كثر غضبه وظهر خرقه واشتد حقده… إذا استمرت هذه العادات بالإنسان كان بالسباع أشبه منه بالناس فأما من ساس نفسه الغضبية وأدبها وقمعها كان رجلا حليما وقورا عادلا محمود الطريقة فالعلة الموجبة لاختلاف عادات الناس في غيظهم وسفاهة بعضهم هو اختلاف احوا ل النفس الغضبية إذا كانت مذللة مقهورة كان صاحبها وقورا وإذا كانت مهملة مستولية على صاحبها كان صاحبها غضوبا سفيها غشوما وإذا كانت متوسطة كان صاحبها متوسط الحال رتبته في الحلم كرتبة نفسه الغضبية حتى تنقاد له فيملكها ويستعملها في المواضع التي يجب استعمالها فيها".

وأما النفس الناطقة: "هي التي تميز الإنسان من جميع الحيوان وهي التي يكون بها الذكر والتمييز والفهم، وهي التي بها شرف الإنسان وعظمت همته فأعجب بنفسه وهي التي بها يستحسن المحاسن ويستقبح القبائح وبها يمكن الإنسان إن يهذب قوتيه الباقيتين وهما الشهوانية والغضبية." فالنفس كما يقول ابن عربي كلما "رجعت إلى مقتضى العقل، عرفت، بحكم العقل أن نزولها، إلى مقتضى حكم الجسم وبال عليها" ، فكلما استسلم الإنسان وذهب وراء النفس الشهوانية والغضبية كلما ظهرت أخلاق القول على السطح، أخلاق هذه النفس الدوابية الدنية التي تعمل على تخريب الأفراد والجماعات، وكلما تمت السيطرة على النفس الغضبية والنفس الشهوانية يتم فسح المجال لأخلاق الفعل وهي أخلاق العمق التي تتحكم فيها النفس الناطقة، التي تميز الإنسان من جميع الحيوان وهي التي يكون بها الذكر والتمييز والفهم.

أخلاق الفعل:

وهي الأخلاق التي تميز الإنسان الذي استخلف في الأرض وحمل الأمانة العظمى عن غيره ممن شغلته الحياة البهيمية والدوابية، واستسلم لنفسه الشهوانية والغضبية كما بينا في أخلاق القول. وأخلاق الفعل هي الأخلاق المحمودة التي تتحكم فيها النفس الناطقة والتي يحاول أن يعمل بها كما يقول ابن عربي كل "من ينتبه بجودة الفكر، وقوة التميز لقبحها، فيأنف منها، ويتصنع لاجتنابها، وذلك يكون عن طبع كريم ونفس شريفة". ولا يمكنه ذلك إلا بالقضاء على أخلاق القول ولا يتأتى ذلك إلا عبر تذليل النفس الشهوانية منها والغضبية، وتمييز عادات النفس الناطقة، واستعمال المحمود من أفعالها.

إن الطريق في قمع النفس الغضبية وتذليلها هو أن يصرف الإنسان همته إلى أن يتفقد السفهاء الذين يسرع إليهم الغضب في أوقات طيشهم وحدتهم وتسفههم على خصومهم
إن الطريق في قمع النفس الغضبية وتذليلها هو أن يصرف الإنسان همته إلى أن يتفقد السفهاء الذين يسرع إليهم الغضب في أوقات طيشهم وحدتهم وتسفههم على خصومهم
 

وطريق التدريج لاستعمال العادات الجميلة، والعدول عن العادات المستقبحة، هو التدرج في تذليل هاتين القوتين، لأن أفة الأمة اليوم متمثلة في سيطرة أخلاق القول المرتبطة بتدليل هتين القوتين، فبالنسبة للنفس الشهوانية "فالطريق إلى قمعها أن يتذكر الإنسان في وقت شهواته، وعند شدة القدوم لذاته، أنه يريد تذليل نفسه الشهوانية، فيعدل عمن تاقت نفسه إليه من الشهوة الردية إلى ما هو مستحسن من تلك الشهوة، من جنس تلك الشهوة، متفق على ارتضائه، فيقتصر عليه".

 

"أما النفس الغضبية فإن الطريق في قمعها وتذليلها هو: أن يصرف الإنسان همته إلى أن يتفقد السفهاء الذين يسرع إليهم الغضب في أوقات طيشهم وحدتهم وتسفههم على خصومهم… فإنه يشاهد منهم منظرا شنيعا، يأنف منه الخاص والعام…فإنه إذا تذكر ما كان استقبحه من السفهاء، انكسرت بذلك صورة غضبه" ولا يمكن الانتقال من أخلاق القول إلى أخلاق الفعل، وترويد النفس الشهوانية والنفس الغضبية إلا عبر "تقوية النفس الناطقة فإن بهذه النفس تكون جميع السياسات. وهذه النفس إذا قويت متمكنة من صاحبها أمكنه، أن يسوس قوتيه الباقيتين، ويكف نفسه عن جميع القبائح، ويتبع أبدا مكارم الأخلاق" ليصبح "حسن الخلق إنما هو فيما يرضي الله." وينبغي لمن أراد أن يتخلق بأخلاق الفعل "أن يكون متفقدا لجميع أخلاقه، متيقظا لجميع معايبه، متحرزا من دخول كل نقص عليه، مستعملا لكل فضيلة، مجتهدا في بلوغ الغاية، عاشقا لصورة الكمال، ملتذا بمحاسن الأخلاق، متيقظا لمذموم العادات، معتنيا بتهذيب نفسه". كما يقول ابن عربي.

وهكذا يكون الفكر الأكبري الذي يدور مذهبه مع الحب والجمال والرقي وجودا وعدما، قد قدم لنا بعض الحلول التي يمكنها أن تساهم في إخراج هذه الأمة من أخلاق القول التي تعشقها نفوسهم الدوابية، إلى أخلاق الفعل والعمق التي ترفعهم إلى مقام الملائكية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.