شعار قسم مدونات

هذا ما تعلمته من أول سنة غُربة!

blogs تأمل

ألسنا في غربة! أليس وجودنا في هذه الحياة هو عبارة عن غربة! الغربة في الأصل هي غربة الروح وليس الجسد، فكم من غريب في وطنه، وكم من غريب بين أهله. أكملت عامي الأول منذ أيام خارج وطني منذ أيام، لا أعرف هل أصفها بالغربة أم بولادة جديدة لي؟ لم تكن لي غربة بقدر ما أنها قد خلقت فيّ شخصاً جديداً بشخصية جديدة وأفكار أوسع، فتحت لي الباب واسعاً أمام الحياة لأخوض فيها وأجرب ما لم أكن أجرأ أن أفكر فيه حتى.

سنوات التيه التي قضيتها في مصر، قضيتها في شتات وعدم وعي وقلة حيلة، لم أكن أستطيع أن أفهم نفسي أو أن أرتب حياتي، كانت تجربة الغربة بالنسبة لي كنفحة من الله قد أكرمني بالتعرض لها. تسعة عشر سنة عجاف قضيتها في مصر، تبعهم عام كان كمعراج بالنفس إلى سدرة الأمل وسمو الروح، عمري الحقيقي هو عشرون سنةً إلا تسعة عشر، فعمر الإنسان يقاس بما قدم لنفسه من أعمال تنفعه وليس بعدد السنين التي عاشها.

أسوء ما في الغربة هي أهلها، ستعرف أناس من كل حدب وصوب، ستصاحب هذا، وتتعامل مع هذا، وتسكن مع هذا، لكنهم في الغربة يخرجون أسوء ما فيهم من عيوب وسلوكيات، سيتركون معاناتك في العمل طوال الأيام وإرهاق المواصلات وزحامها، وينظرون إلى الأجر الذي تأخذه، حتى أن بعضهم يحقد عليك لمجرد أنك تعمل. ستجد الحاقد والحاسد والمثبط والمنافق وبائع الوهم، قد يخونك أقرب الأشخاص إليك، وقد يصبح بعض الذين تظنهم أصدقائك أكبر عائق في طريقك، وستجد الطيب والخلوق، لكن قد يكون الشيء المشترك بين هؤلاء وهؤلاء.. هو عدم تمنيهم الخير لك والحقد الذي ينزع من الإنسان إنسانيته.

حصاد تجربة الغربة هذه أنها قد خلقت فيّ شخصاً جديداً، ومنحتني قدرات لم أكن لأتمتع بها لو بقيت حيث كنت، فما كنت أكرهه بالأمس "السفر" أصبحت ممتنناً له اليوم

ستمنحك الغربة الحرية التي لا ليس لها حدود، فلا أحد يراقبك ولا أحد يحاسبك، لكنها مقابل ذلك تحملك مسؤوليتها، فتمتحن ما تعتنقه من قيم ومبادئ، ستفتح لك الأبواب علي كل الطرق، وكل ما عليك أن تختار طريقاً تتحمل تبعاته، قد تسلك طريقاً وتضيع في متاهاته، وقد تسلك طريقاً يجعل منك شخصاً ذو شأن أمام نفسك، وأمام الناس، لا تخف من المغامرة، لا تٌكبّل نفسك بسبب خوفك من عواقب خوض التجربة، غامر وجرب، فالحياة تجارب.

ستجعلك الغربة أكبر من سنك بكثير، ستشيخ وأنت في ريعان شبابك، ستفتح عقلك على ما غفلت عنه طيلة حياتك، ستجعلك تتعرف على نفسك عن قرب، ستخلق فيك شخصاً جديداً، وستُدخل علي عقلك أفكاراً جديداً، ومن سوءاتها أيضاً أنها ستجعلك تحب المال وتسعي وراءه تلهث، لتستطيع سد حاجاتك اليومية. قد يلطف بك الله فيعوضك بأب وأم غير أبوك وأمك.. فيقوموا بتعويض دور الأب والأم الحقيقي الذي تفتقده. ستندم على أشياء كثيرة فعلتها في ماضيك، ستتمني لو كنت بعقلك هذا حيث فعلت هذه الأشياء، ستندم على ما فعلته في حق أهلك وأصدقائك من أشياء قد تبدوا لك في ظاهرها أنها تافهة، لك ما إن تمر على ذاكرتك اليوم.. تضحك على هذا العقل الذي كنت تملكه حينها.

الحياة ألم وأمل، لا يمكن أن يتخلف أحدهم عن الآخر، فلأمل يخلق في رحم الألم، والألم هو ذاك الذي يأتي ليقومك ويجعلك تعيد التفكير في اقترفته يدك. في الغربة يطرق اليأس بابك كل يوم.. أما أن ترده وإما أن ترحب به ليعشش في قلبك وحينها يصبح قلبك بيتاً للهموم والأحزان، كل محنة تحمل في طياتها منح، اجعل من كل محنة تواجهك منحة تستفيد منها. تغيرت وتغيرت شخصيتي وأفكاري خلال عام، وتغيرت نظرتي للحياة فأصبحت أكثر جدية وأقل اكتراثاً، تغيرت علاقتي مع الجميع، أصبحت أكثر واقعية، كرهت الأحلام التي تبحر بنا وسط أمواج الواقع العالية التي تغرقنا ومعنا أحلامنا، وأصبحت خططي المستقبلية لا تتعدي حاضري.

أكثر ما أشتاق إليه هم أهلي، اشتقت إلي أبي وأمي وأختي وبقية أهلي، اشتقت إلى سماع صوت أخي الذي يقبع في غيابات السجون منذ أكثر من عامين، أحيا علي أملِ هذه اللحظة التي سأعانِقُ فيها أبي، وأُقبِّلُ فيها يدَ امي وجدتي، وأحتضِنُ فيها أخوتي. هذه اللحظة التي سأري فيها أخي أخيراً، التي سأعود فيها للمشاكسة مع اختي، اللحظة التي سنجلس فيها أخيراً على مائدة طعامٍ واحدة مجتمعين لا ينقصنا أحد. حصاد تجربة الغربة هذه أنها قد خلقت فيّ شخصاً جديداً، ومنحتني قدرات لم أكن لأتمتع بها لو بقيت حيث كنت، فما كنت أكرهه بالأمس "السفر" أصبحت ممتنناً له اليوم. "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.