شعار قسم مدونات

قليلٌ من المكرِ لا يكفي!

blogs مكر

الإنسان ذو الفطرة السليمة يعتقد أن الوفاء خِصلة موجودة عند كل البشر، ويتعامل معهم على أنهم يشبهونه في الخصال الحميدة، الأشخاص من حولنا يرتكبون الحماقات، وفي كل مرة نغفر بسبب الفطرة السليمة، ظانين أن الآخرين حريصون على مصلحتنا، لكن مواقف الحياة تؤكد أنه لا أحد حريص على مصلحتك الا أنت نفسك. هناك من يتمنى لك الخير، وهناك من يحاول مساعدتك، والفئة الأكثر هي ممن لا يهتمون بك ولا تهمهم مصلحتك، وأخرى تتمنى خسارتك، وعليه يجب أن نتعامل مع الآخرين بحنكةٍ لا بسذاجةٍ بحجة الفطرة السليمة، ولا عجب أن عمر رضي الله عنه قال: "لستُ بالخِبِّ، ولا الخِبُ يخدعني"، أي أنه ليس مخادعًا، ولا المخادع باستطاعته أن يخدعه.

إذًا، كيف نتعامل؟ هل علينا أن نتعامل مع الناس بقانون الغاب؟! الغابة يحكمها قانون معروف، وفيه الغلبة للأقوى، لذلك لا أحد ينازع الأسد في فريسته، وإذا تعاملنا بهذا المنطق فنحن نعترف بالمحسوبية، والواسطة، ونقرّ بأننا لا نمتلك أي منظومة أخلاقية. الواقع اننا نخدع أنفسنا ونعتقد بأن لدينا قانونًا راقيًا للتعامل، فنجد العلاقات في العمل تُبنى في كثير من الأحيان، للأسف، على النفاق وعدم حب الخير للآخرين، فمن نالته ترقية أو إعجاب من مديره سارع الآخرون بتدبير المكائد له حتى لا يرتقي وينافسهم على المناصب، لأنهم يعتقدون أنهم فقط من يصلحون لاعتلائها.

إذًا، هل نتعامل بقانون التجار؟! أي أتعامل مع الناس بقانون "إذا فعلتَ لي مصلحة ما، فلك مصلحة مقابلها"، أي "هات وخُذ"، قانون لا مكان فيه للإنسانية. أم هل نتعامل بقانون "أنا أصرخ، إذن أنا موجود"؟ هذا القانون باختصار تفسره المقولة العامية "خذوهم بالصوت ليغلبوكم" أي عندما يبدأ أي حوار يسارع الشخص برفع صوته ليضطر الأخرون الى سماعه، فهم لا يستمعون لأنه رأيه يعجبهم بل ليريحوا أذانهم من صراخه، وفي كثير من الأحيان ينفع الصراخ. وهناك قانون من كلمة واحدة فقط وهي "الكولسة"، أي "خطط من تحت الطاولة"، وإليكم مثالًا للكولسة في محيط العمل:

المكر مطلوب مع الأعداء، لكن بعض الناس أصبح المكر لديهم عادة، واعتقدوا من كثرة ممارستها أنها فطنة، فتفوقوا على الثعلب في احترافهم للمكر

اجتماع مكون من عشرة أشخاص، والمطلوب اتخاذ بعض القرارات، يبدأ النقاش وهناك أربع أشخاص يسيطرون على النقاش بأحد القوانين السابق ذكرها، ويتبنون قرارًا اتخذوه في لقاء "مكولس" سابقا، وما كان الاجتماع الحالي إلا للإعلان عن قرارهم ليرى النور وبالتالي إعطائه شرعية أمام الجميع. القوانين السيئة كثيرة، لأن وجوه الشرِّ باتت كثيرة، وأصبحنا نبحث عن الخير، كمن يبحث عن إبرة في كومةٍ من القش، وأصبح ديْدنُنَا ظن السوء قبل الخير. لا تنتظر عزيزي القارئ أن أعطيك قانونًا تتعامل فيه مع الأخرين في هذه الحياة.

عليك أن تكون حكيمًا، فلكل موقف أسلوب للتعامل معه، ولكل إنسان مفتاح لبناء علاقة صحيحة معه، ومهما كانت المواقف سيئة، كُن أنت في نفسك الأفضل، فلا ترضَ لها الدناءة ولا الخوض في الرذيلة. كن كالأمير الذي عطش في الصحراء، وبحث عن الماء، كاد أن يهلك لولا كأس ماء بارد من عجوز فقيرة، لم يجد مكافأة على صنيعها، إلا أن أعطاها المال الذي بحوزته، همس له وزيره لماذا كل هذا المال يا سيدي؟! إنها لا تعرفك، غضب الأمير من وزيره قائلًا: "لكنني أعرف نفسي".

وكما قال الشاعر:

والناسُ هذا حظُّه مالٌ وذا علمٌ وذاكَ مكارمُ الأخلاقِ
والمالُ إِن لم تَدَّخِرْه محصناً بالعلمِ كان نهايةَ الإملاقِ

وأنت عزيزي القارئ، اعرف نفسك، فلا تُدلّس في قولك، ولا تستخدم نفوذك لمصالحك الشخصية، ولا لمنع حقٍ عن صاحبه، ولا تمكر لأحدٍ بحجج واهية، المكر خصلة يُعرف بها الثعلب في كل أفعاله، وهناك بعض البشر استعاروا هذه الخصلة من الثعلب، ولا ضير في ذلك فالمكر مطلوب مع الأعداء، لكن بعض الناس أصبح المكر لديهم عادة، واعتقدوا من كثرة ممارستها أنها فطنة، فتفوقوا على الثعلب في احترافهم للمكر، وأصبح شعارهم "قليلٌ من المكرِ لا يكفي، وكلما زاد المكر زادت الغنائم".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.