شعار قسم مدونات

مزايا أن تكون "مقطوعاً من شجرة"!

مدونات - الغربة سيدة تجلس تنظر

فتحَتْ عينيها، طنينٌ منتَظَم هو أول ما تناهى إليه سمعها، وسقفٌ أبيض في زاويته عمود يعلَق عليه محلول الإشباع هو أول ما وقعت عليه عيناها، حاولَتْ أن تتذكر اللحظات الأخيرة قبل أن تجد نفسها هنا، فشتتها التجمهر الذي ملأ الغرفة: تقف بجوارها قريبة من طرف العائلة لا تتذكر اسمها أو صلة قرابتها بها، وكومة من الكاميرات تلمع "فلاشاتها" في وجهها، وتهامُسات بين حامليها "هل هي الناجي الوحيد؟". كانت هي فقط من تبقى من عائلة ممتدة وسيرة حياة بأكملها مُسحت عن وجه الأرض في لمح البصر.

قبل ذلك كان اسمها أمل، اختاره لها والدها، ولم تعُد تدري الآن هل سيبقى اسمها محتفظاً بترتيب حروفه، أم أنها تبعثرت مع اهتزاز القصف، لتحمل معنى آخر؟! بعد بُرهة -تقصر أو تطول- من تحديق الكاميرات وملاحقة الصحافة، ومؤازرة المعارف وتعاطف الناس، أصبح الأمر أشبه بذهاب السّكرَة ومجيء الفكرة؛ الحالة التي تعيشها الآن هي ما ينطبق عليه قول جدتها -الراحلة مع الراحلين-: ما في حدا مقطوع من شجرة! لكنها حالة تثبت عكس ما ذهبت إليه العجوز الحكيمة التي عاشت في زمن آخر، يُنبِت حتى للفرع المقطوع جذوراً تجعل له شجرة أخرى، لكن لسوء طالعها امتد بها العمر لتموت في زمن يحمل فيه القاتل سكّيناً مسموماً، لا فرصة بعدها للفرع المقطوع في النمو.. من الجيد أنها ماتت قبل أن ترى ذلك بأمّ عينها!

قابلتُ أمل بعد عشرة أعوام من الحادثة، لأودّعها وقد عزمَت على السفر، بدت سعيدة بكآبتها، مستأنسة بوَحشتها، راضية بذهولها، لم يعد يهمها إذا كانت تبكي كل ليلة -كالفرض- وتصمت أكثر مما تأكل، وتغرق في التأمل كما غرقت حياتها في الدماء، فهذه صارت طقوسها التي تحدد هويّتها وتُسلّي وحدتها.

– كيف أنتِ

– أنا حرّة

الغربة وصف طاغٍ لكنه شائع بين كل الغرباء، وهذا سيجعل غربة نفسي العميقة أقل طغياناً، وسيجعل الذاكرة أخف توحشاً حين تنفصل عن الأماكن الخاوية

كانت تريد أن تقول: مقطوعة من شجرة، لكنها وجدت لمأساتها وصفاً أخفّ وطأة وأكثر بريقاً.. قرأَتْ في عينيّ ذلك الاندهاش المُشفق، فابتسمت وأجابت كأنما سمعَت صوتي: "في الحقيقة، إن لكوني مقطوعة من شجرة عدة مزايا لم أكن لأعرفها فضلاً عن أن أنالها دون هذا الوصف: حين تكونين مثلي ستكونين ملكة الوقت، ستنامين قبل الغروب أو بعد الفجر، تستيقظين منتصف الليل أو بعد الظهر، تخرجين اليوم أو بعد غدٍ، عشر دقائق أو خمس ساعات.. لن يُملِي عليك أحد جدول مواعيدك، تماماً كما لن يملأه أحد. ستنامين خالية الذهن من القلق على صغير مرِض، والتوتر لابنة في قاعة امتحان، والخيبة من ثوب جديد كبُر على صبي بسرعة.

سيأتي الصيف دون أن يزاحمك سريرك أحد، وسيأتي الشتاء دون أن ينازعك -ذات الأحد- غطاءك، لن يضحك من دموعك أو يغضب من تبرجك، ولن يعلّق على طعامك أو يتبرم من طلباتك. سيبقى هاتفك ساكناً في سلام دون أن تثقله رسائل العيد المتكررة، ومجموعات واتس اب المتطابقة، سيرتاح من إشعارات فيسبوك التي مصدرها غالباً شقيقتك التي ذكرتك في كل تعليق على صفحات الأزياء والتجميل والحلي، وسيختفي رنينه الدوري مرة أو أكثر يومياً بسبب اتصالات والدتك تتابع مستجدات حياتك التي تهمها أكثر من حياتها.

ستستمتعين بنقودك دون أن يستدين منك أخوك الأكبر، وسترتدين ما يعجبك دون التعليقات السخيفة لأخيك الأصغر، والأهم أنك ستتخلصين من مزاحهما الثقيل! أصبح الزّمن أكثر هدوءاً يا عزيزتي، وأكثر ثقلاً في الوقت نفسه، والأشياء أكثر مَدعاةً للتأمل، وأكثر إثارة للشجن، وأصبحت القرارات أسهل الأشياء وأصعبها على الإطلاق! تمرّ المناسبات بلا ضجيج، رغم ضجيج الذاكرة الذي لا تقوى عليه كل أنواع العقاقير المسكّنة.. أنا الآن حرة يا صديقتي.. متخففة من كل مسئولية وواجب والتزام وقيد، لا يؤرقني شيء سوى ذاكرتي، هي فقط ما يُثقلني، لكن لا بأس، فهي الشيء الوحيد الذي يربطني بي".

ألن تزيدك الغربة وحشة حين تغادرين؟ بل ستُذهِبها، فلن أكون الوحيدة "الوحيدة"، لا أول من يبكي أمام البحر، ولا آخر الهائمين في الطرقات، ليس عليّ أن أواجه شفقة مَن يعلمون وسخرية من لا يعلمون. الغربة وصف طاغٍ لكنه شائع بين كل الغرباء، وهذا سيجعل غربة نفسي العميقة أقل طغياناً، وسيجعل الذاكرة أخف توحشاً حين تنفصل عن الأماكن الخاوية،" لقد كانت أمل بنتاً وحفيدة، أختاً وكنة، زوجة وأماً، خالة وعمة، ثم صارت لا أحد.. مضيتُ معتذرة لانتهاء وقتي بعد سخريتها مني وهي التي نادراً ما تنظر إلى الساعة.. لقد رأيت أمل وحروف اسمها لم تتبعثر فقط بفعل القصف، بل لم تعد ثلاثة أحرف، وصارت ثلاث أدوات للنفي!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.