شعار قسم مدونات

مرُّ البدايات لا يَمُر..

مدونات - مر البدايات

هل كانت تعي أن الوقوع تحت تأثير وهج اللحظات الأولى سيسبب لها كل تلك الندبات، وأنها ستحاول جاهدة أن تُدثِّر السليم الباقي من روحها لكن دون جدوى، وأن كل ذلك سيعيث في نفسها الرَّوع والخوف، وسيطفئ بريق عينيها لأجلٍ غير مسمى؟! قابعة الآن في مكان لم يعد الندم مجديًا، تسترد الذكريات بشكل عشوائي وكأنها تخوض بزخمها حربها الخاصة محاولة أن تظفر بالنصر، وبالرغم من أنها كانت هي صفوف المقاتلين الأولى، بل وكل الصفوف والمحاربين لم تكن تمتلك القوة اللازمة لأن تتخلى عن أحب الأشياء إليها. في الخامس والعشرين من أيار لسنة ألفين وثماني عشرة..

"الأشياء تنتهي ظاهريًا فقط، أما في نفوس أصحابها فهي ممتدة إلى الأبد"

جلست في مكانها المعتاد، في ذلك الركن الذي جعلت منه عزلتها، تذْكُر كيف أحبته شخصًا عاديًا، لكن دهشتها به لم تنطفئ يومًا، تشعر وكأن كل المشاعر التي كانت أصبحت كالورق في مهب الريح، تردد في داخلها: (أنا آثمة في حق نفسي..) وأقوال أخرى مفككة تنهش روحها لقساوتها وبكثير من الكلمات التي اجتازتها عابرة مخلفة بذلك أثر لا يزول، فمن الممكن أن يتخفى بالشيء نقيض صفته، وقد يقع أثر الشيء الجميل كأثر السيء منه، ولكننا ندرك هذا حين يفوت الأوان.. نهرب غالبًا من شيء لم نُهيئ له بعد، من ثقل الهواجس ومن تصورات المخيلة، ومن عجز النفس عن احتضان الحقيقة ومن كل شيء.. ينقصها سماءٌ بلا قمر وشمس أكثر اشتعالًا لتطفئ بالقلب لهيب الحنين، الحنين لتلك اللحظات التي تُلاشي الوقت دون شعور. ثم أدركت أن لا علاقة لضوء القمر وسكون الليل باشتعال الحنين، بل هو عرض جانبي لإدمان العيش بالماضي أو عيش الآن بما كان، ولاستمرارية الهمس المجهول الذي يربك هدوء الليل (أنا ها هنا أيها الممكن المستحيل).

"ودع الأشياء كلما شعرت بأنها غير ثابتة وغير قابلة للاستمرار"

كانت تؤمن أن ما يشتت الفردين قد يجمعهما أو ما بينهما من اختلاف قد يوحدهما، ربما قد يصل اجتماع شخصين بتلك الصفات للكمال، لأن كل منها سيكمل بهذا نقص بالآخر أو يسد فراغًا ما بداخله.. لم تكن تعلم أنها بدأت تقدم تبريرات سخيفة لما يسكن خافقها من مشاعر وتناقضات وما يربك فكرها من ذكريات، وكأنها تقاتل بتلك الكلمات حتى وإن كانت صحيحة من أجل بصيص أمل أو ربما لتحظى بلحظات أكثر مستمتعة بذلك الشعور. كانت على استعداد لأن تهب حياتها في سبيل تلك العواطف أو في سبيل الشعور بالامتلاء والسكينة والجمال، فكل ذلك كان يحمل إليها سعادة لا حد لها.. بنظرها لا يوجد تفسيرًا واحدًا للكم الهائل من المشاعر، كان في مثل تلك اللحظات أعلى درجات الاتساق والجمال، فكل ذلك أحدث في نفسها عاطفة لم تخطر يومًا على بالها، لأن بمثله شيء من كل شيء، ظنت لوهلة ما أن كل شيء ممكن، والمستحيل ممكن بدليل: (نعرف كيف يعود الرماد لهيبًا إذا اعترف العاشقان)!

"لست أمام عيني، ولكنك كل ما أرى"
تؤكد دومًا أن الحياة لا تقاس بأيامها وشهورها بل بزخَم أحداثها، وأن المرء قد يبدد عدة سنين بشيء لا يذكر وقد يعيش حياة بأكملها في خمس دقائق، تأمل أن تختزل تلك اللحظات وتحمل صفة الخلود لا أن تكون كالسراب

قال: تركتُ لكِ مكانًا في الجزء المخلد مني، وأما الباقي فليعبر عليه الزمن، وليترك به ما شاء من أثر.. ما دمتِ باقية فيَّ فما بالي أبالي بالفاني الظاهر مني، أخفيك فيه لأنه مكان لم يدركه أحدٌ بعد ولن يحدث أبدًا، به ما يناسب ذاتكِ اللطيفة وأشياء أخرى لا أعلمها، فما أوتيتُ من العلم إلا قليلاً. قالت: وكأنني قمرٌ لا يطلُ على الدنيا إلا بنظرة إليكَ، فأسلُّ من ذاك النور وجودي، كلما دنوتَ من قلبي اقتربتُ من البدرِ في الكمال، وكلما ابتعدتَ تلاشيتُ، فمحاقٌ من بعد التمام.. أنت النقيض الذي أدركت من خلاله ذاتي، وقبلتي نحو الجمال، والشيء المفاجئ الذي هبط على القلب والروح، فأعاد لي شعور الفراشات..

"حديثهُ أو حديثٌ عنهُ يطربني، هذا إذا غابَ وهذا إذا حضرا"

تؤكد دومًا أن الحياة لا تقاس بأيامها وشهورها بل بزخَم أحداثها، وأن المرء قد يبدد عدة سنين بشيء لا يذكر وقد يعيش حياة بأكملها في خمس دقائق، تأمل أن تختزل تلك اللحظات وتحمل صفة الخلود لا أن تكون كالسراب، وبالرغم من كل هذا كانت ترى أنها تحمل  مشاعر ضبابية لا معالم واضحة لها.. أي ضير في أن تمتلك ما يكفي من الوعي حتى تقول ما تريد، أو ما يكفي من الشجاعة لتتمرد على سلطة الندم؟ الكثير من الهواجس تقلقها بشكل يسلب منها القوةَ اللازمة للتعبير عما يعصفُ بداخلها، تعلم أنه لا يمكنُ أن يمنحَ الشعور جمالًا إلا بالقدرة التامة بالتعبير عنه، فهل من الممكن أن تسترد شجاعتها على نحوٍ مباغت إثر اندفاعة تسيطر على القلب بقوة وحرارة وبشكلٍ كافٍ ليبدد تلك الظلمات التي استولت على النفس لزمنٍ طويل؟! تحاول إقناعه أن الحب دومًا كان أجنبيًا عليها وأنها تخاف استبداد المشاعر وكل ذاك كان يهوي بها إلى قاع من الحزن واليأس.. ولكن حدث وأن التفت الروح بالروح بلحظة ما، بمشاعر تخطت حدود الزمان، تساءلت هل كان ذاك الزمان منتقىً برعاية إلهية؟ لم يسأل أحد منهما عن المعنى، فلا معنى للمجهول، ربما هكذا تولد الأشياء الجميلة بلحظات جهل كنا عاكفين عليها.. "وطلبتُ منكِ مودة.."

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.