شعار قسم مدونات

بين الرياض وبيروت.. هكذا يهدد بن سلمان اللبنانيين

blogs لبنان و السعودية

منذ ما يقرب من عام مضى، تكشفت قصة غير عادية شارك فيها رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، في العاصمة السعودية الرياض. فقد أعلن الحريري في خطاب متلفز مباشر استقالته من رئاسة الحكومة، وأشار إلى تعرضه لتهديدات بالقتل من قبل إيران. وقال -بينما كان يقرأ بطريقة متكلفة شديدة الرسمية نصًا مكتوبًا- إن إيران "ما تحل في مكان إلا وتزرع فيه الفتن والدمار والخراب"، وأضاف "وأريد أن أقول لإيران وأتباعها إنهم خاسرون في تدخلاتهم في شؤون الأمة العربية". لقد كان ذلك القول مثيرًا للسخرية، نظرًا للظروف. بيد أن الحريري، إذا كان مدركًا لذلك، فقد كان حريصًا على إخفائه. وذلك لسبب وجيه.

 

يتميز التاريخ الذي بث فيه هذا الخطاب، الرابع من شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2017، بأهمية كبيرة. فقد أمر ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في ذلك اليوم نفسه باعتقال ما يقرب من 200 من كبار رجال الأعمال وأعضاء العائلة الحاكمة، وسجنهم في فندق ريتز كارلتون، وهو من أفخم الفنادق العالمية ذات الخمس نجوم في الرياض، فيما أشير إليه بحملة لمكافحة الفساد. أُطلق سراح معظمهم خلال الشهرين التاليين، ولكن فقط بعد موافقتهم على تسليم الجزء الأكبر من أصولهم المالية إلى الحكومة.

 

بالنسبة للحريري، الذي تمتلك عائلته شركات وممتلكات وحصصًا في أعمال تجارية واسعة النطاق ومتعثرة في المملكة، فإن ما يُطلق عليه حملة "مكافحة الفساد" كانت لها تداعيات سيئة. فعلى الرغم من أن أسرته نجت من الاعتقال، إلا أن الرسالة كانت واضحة. ولم يكن أمامه سوى خيار قبول الانقلاب الذي دبرته السعودية. أمضى الحريري بعد ذلك ما يقرب من أسبوعين تحت الإقامة الجبرية الفعلية قبل أن يُسمح له بمغادرة الرياض إلى باريس بعد تدخل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وعند عودته إلى بيروت في أوائل شهر ديسمبر/كانون الأول، ألغى استقالته وعادت الأمور إلى الوضع الذي يبدو طبيعيًا في المشهد السياسي الممزق في لبنان.

 

في الوقت الذي توجهت فيه البلاد إلى صناديق الاقتراع في شهر مايو/أيار من هذا العام، تبخر الكثير من التعاطف مع الحريري في ظل جو مرير من الركود الاقتصادي

تحولت قضية الحريري برمتها، التي خُطط لها في الأصل أن تكون انقلابًا من قبل محمد بن سلمان للتأكيد على قدرة المملكة العربية السعودية على الحد من تدخل إيران، إلى العكس تمامًا مما هو مقصود بطريقة لا تصدق. فقد انتشرت سمعته باعتباره قائدًا يتصرف بسرعة دون فهم واضح للعواقب، وظهر ذلك جليًا بالفعل خلال الحرب التي تقودها المملكة في اليمن والنزاع القائم مع دولة قطر. اصطف اللبنانيون، الغاضبون من التحكم السعودي المُطبق على لبنان، مع الحريري. وظهر حزب الله، الذي يُمثل القوة المدعومة من إيران والذي يعتبر وسيطًا رئيسيًا لها في لبنان، في موقف أقوى من ذي قبل على أقل تقدير.

 

ومع ذلك، في الوقت الذي توجهت فيه البلاد إلى صناديق الاقتراع في شهر مايو/أيار من هذا العام، تبخر الكثير من التعاطف مع الحريري في ظل جو مرير من الركود الاقتصادي، وفي ظل الرائحة النتنة للنزاع الذي طال أمده دون التوصل إلى حلول حول مشكلة التخلص من القمامة في العاصمة بيروت. وخسر حزب تيار المستقبل الذي يتزعمه الحريري ثلث مقاعده، وحصل على 20 مقعدًا فقط في البرلمان المؤلف من 128 مقعدًا. وحصل حزب الله وحركة أمل الحليفة له، على 28 مقعدًا. ومنذ ذلك الحين، لم تفض الجهود الرامية إلى تشكيل حكومة مع تعيين الحريري رئيسًا لها إلى شيء يذكر.

 

وقد وصف رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، ذلك الوضع بأنه "خطير للغاية". وأضاف "فلبنان اليوم في غرفة العناية والوضع الاقتصادي خطير ولا يمكن تجاهل هذا الواقع". لم يكن رئيس مجلس النواب يبالغ. فقد أصبح لبنان الآن يعاني من أحد أكبر أعباء الديون في العالم، إذ بلغت الديون الحكومية أكثر من 150 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وفي تحليل نُشر مؤخرًا، أشارت شركة كابيتال إيكونوميكس للاستشارات الاقتصادية، إلى أن "عجز الحساب الجاري وصل إلى 25 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. ويمول العجز إلى حد كبير من خلال تدفقات الحوافظ المالية والودائع إلى المصارف المحلية من غير المقيمين – وبشكل رئيسي من المغتربين اللبنانيين في الخارج".

 

أدت التوترات التي اندلعت في أواخر العام الماضي إلى تقدّيم لمحة عن مدى ضعف القطاع المصرفي اللبناني أمام تصاعد التوترات. وخلال تلك الفترة انخفضت ودائع غير المقيمين بنسبة ثلاثة بالمائة في شهر واحد
أدت التوترات التي اندلعت في أواخر العام الماضي إلى تقدّيم لمحة عن مدى ضعف القطاع المصرفي اللبناني أمام تصاعد التوترات. وخلال تلك الفترة انخفضت ودائع غير المقيمين بنسبة ثلاثة بالمائة في شهر واحد
 

تستضيف المملكة العربية السعودية ما يقرب من 200 ألف من المغتربين اللبنانيين، ومع تصعيد البلد لحملة السعودة – إحلال المواطنين السعوديين محل العمالة المهاجرة – فإن وظائفهم والتحويلات التي يرسلونها إلى لبنان معرضة بشكل متزايد للخطر. على الرغم من تعثر محمد بن سلمان بشدة في قضية الحريري، فإن غضبه المتأجج تجاه إيران مستمر بلا هوادة. كان من الممكن أن يتخذ إجراءات أقل خطورةً من توقيف رئيس الوزراء وإجباره على الاستقالة، مثل طرد العمال اللبنانيين أو فرض حظر على السلع اللبنانية، وخاصةً المواد الغذائية، التي يتم تصديرها إلى المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى.

 

وتُعد من الإجراءات الأكثر قوة، فرض قيود تمنع أي تعاملات مع المصارف اللبنانية، سواء كانت تودع عن طريق الحوالات أو المعاملات التجارية. ومن شأن مثل هذه الخطوة أن تشجع على تدفق رؤوس الأموال من المصارف وتجبر البنك المركزي على خفض قيمة الليرة اللبنانية، مما يزيد من صعوبة خدمة الديون الهائلة في بلد يذهب فيه نصف إجمالي الإيرادات الحكومية نحو سداد الديون.

 

وهذا بالضبط ما حدث في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني عندما أُجبر الحريري على الاستقالة. وكما يشير تقرير كابيتال إيكونوميكس، "فقد أدت التوترات التي اندلعت في أواخر العام الماضي إلى تقدّيم لمحة عن مدى ضعف القطاع المصرفي اللبناني أمام تصاعد التوترات. وخلال تلك الفترة انخفضت ودائع غير المقيمين بنسبة ثلاثة بالمائة في شهر واحد". لو استخدم محمد بن سلمان مثل هذه الوسائل لزيادة الضغط من أجل الحصول على مزيد من التنازلات وإجبار لبنان على كبح قوة حزب الله، فمن المحتمل أن تكون تداعيات ذلك على القطاع المصرفي اللبناني الهش أصلًا، ومعه الاقتصاد، كارثية.

 

السؤال الذي يظل مطروحًا هو: مدى استعداد محمد بن سلمان لمحاربة إيران من خلال حرب اقتصادية وسياسية بالوكالة في لبنان؟ وقد يعتقد أيضًا أن الإسرائيليين، الذين يشعرون بالقلق الدائم من حزب الله، سيدعمون شكلًأ من أشكال التدخل العسكري. في ظل وجود العقوبات الأمريكية التي تلوح في الأفق على إيران وبدعم غير مشروط وغير منقطع من البيت الأبيض في ظل إدارة ترامب، قد يعتقد محمد بن سلمان أن الوقت مناسب لتصعيد حرب بالوكالة. سيكون ذلك خيارًا متهورًا، من شأنه أن يُلحق ضررًا لا يمكن التنبؤ بعواقبه بالشعب اللبناني، ولكن هذا القائد أظهر مرارًا أنه مستعد للتصرف برعونة وبلا تفكير، ودون النظر إلى العواقب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مترجم عن: Aljazeera.com

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.