شعار قسم مدونات

هل يمكن أن نتجاوز الواقع البائس الذي نعيشه؟

BLOGS مكتبة

"إلياس" صبي في الخامسة من العمر، لاحظ والداه أنَّهُ كثير الحركة، لا يكاد يهدأ.. كان يفسد أيّ غرض يقعُ بين يديه. في أحد الأيام، تركه والدُهُ في الغرفة وراح يحضّر فنجان قهوة.. فجأة تذكَّر ابنَه وخطورة تركه وحيدا، فلمَّا دخل عليه وجده قد مزَّق كتابا أو اثنين وتبوَّل على الأوراق الممزقة الملقاة على الأرض.. تنفَّس الوالد الصعداء، وقال: "الحمد لله أنَّك لم تكسر مزهرية، أو تخدش أثاثا، أو ترسم على الجدران.. من حسن الحظِّ أنَّها جاءت في الكتب"! كبُر إلياس، وما إن شبَّ على الطوق حتى غدا هادئا راشدا، يطيلُ التأمُّل في الحوادث، ويبحثُ مُكثِرًا التنقيب في الأسباب.. مرَّةً -وهو في غمرة من غمرات تدبّره- تذكّر حادثة "تمزيق الكُتُب" وكيف أهانها بالتمزيق والتبوُّلِ عليها، واستغرب موقف أبيه -يومئذ- ذلك المتعلّم المثقف الذي فضَّل المزهريات والأثاث والجدران على الكتب.

غير أن إلياس فاتَه أنَّ والده كان ينظر بنفس طريقة سواد المجتمع الذي لم ينتبه إلى ضرورة قيام انتفاضة تستغرقُ جميع أفراده، بهدف تغيير هذه المفاهيم المغلوطة، واستبدالها بمفاهيم أكثر نضجا، وأبلغ نفعا وأبعد صدى؛ تكون اللبنة الأولى للبناء الحضاري المنشود، فتلحق الأمَّة الإسلامية بالركب الحضاري، معيدة مقطورة الشعوب إلى مسارها الطبيعي. وإذا كُتِبَ لهذه الانتفاضة النجاح، فإن الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها ستستقيم باستقامتها، وترتقي وتزدهر بارتقائها وازدهارها. فما هي أسباب قيام هذه الثورة الثقافية؟ وكيف سيتمُّ لها الغلبة في ظلِّ الظروف الراهنة؟ ومتى سيُضبط توقيت انطلاقها؟ ومن سيقود الركب إلى مرسى النجاة؟ ومن سيخطو الخطوة الأولى في عملية التثقيف؟

الماهية

إنَّما نعني بالثورة الثقافية الانتفاضة الجماعية ضد هذا الوضع البائس الذي تعيشه الساحة الثقافية، والذي ألقى بشروره على جميع الأصعدة الاجتماعية، والاقتصادية، والتربوية، والسياسية.. ولئن كان رأسه يلوح في ساح الثقافة، فإنَّ له أرجلا في كل ميدان من الميادين الحسّاسة الأخرى! والثورة الثقافية -لا كما يروِّج أعداؤها- ليست نداءً للتمَّرد أو إضرام شرارات الفتن، ونشر العنف وتعميم الفوضى؛ بل بالعكس تماما، هي دعوة للإصلاح والتغيير والبناء، تهدف إلى الانتصار للحقّ بمحق الباطل، وإذاعة الإحساس بالجمال والفن، بالارتقاء بالذوق العام، والقضاء على مظاهر القبح والرداءة والتقليد الأعور والأعمى! هي دعوة لترسيخ عقلية المواطنة والتعايش، وقبول الآخر بمناقشة آرائه وتقييم أفكاره ومعارضة رؤاه بالتي هي أحسن، وذلك بمجابهة الرأي بالرأي، ودمغ الفكرة بالفكرة، ونسخ الرؤية بالرؤية.

يرى كثيرٌ من المفكرين أنَّ الأمة الإسلامية منذ انزلقت في وحل التخلّف وردغة الجهل، ووقعت فريسة بين أنياب الأمّيّة والفقر؛ لم تزد عن ترسيخ أسباب تخلّفها وجهلها وأمّيَّتها وفقرها

هي دعوة لتحطيم هذه الأصنام الجاثمة على صدورنا قرابة قرنين من الزمان، تحاول زحزحة النّاس من عبادة الخالق إلى عبادة الخلق، ومن ركوعٍ له سبحانه، إلى سجود لمَن لم يوجب لهم سمعٌ ولا طاعة، ولا عُرفوا بحكمة ولا وجاهة! هي دعوة لإعادة الحسابات وتقييم ما غبر من نتائج، فكم من مشروع عقيم -ابتداءً- اِلتَهم الوقت والجهد والمال دون جدوى.. وكم من مبادرة -لا خُطُم لها ولا أزمَّة- بدأت ميتة وانتهت جيفة في مزبلة التاريخ.. وكم من تنمية تدثرت بدثار النهب السلمي لأموال الشعوب الغافلة الغافية، تحت الشعار الخبيث "نصوص باللصوص"! هي دعوة لتسمية الأشياء بأسمائها، فالباطل لا يسوّغه انتشاره بين النَّاس ولا قلة حيلة القائم بالمسؤولية، كما أنَّ الكذب لا تجمّله الغايات الجميلة ولا المصالح المرسلة، وكذلك الرداءة فإنَّها لا تشفع لها الألقاب البرّاقة ولا الأسماء اللمّاعة، وكذلك الظلم لا يُبيحه الظرف ولا توجبه الضرورة!

إنَّ التغيير الحقيقي لا يكون بمجرد عقد النوايا وتزيين المقاصد، كما أنَّ الإصلاح لا يقع بنزهات الخاطر ولا جولات الخيال، وكذا البناء لا يشيّد بنسج الأمنيات وحياكة الأحلام.. إنَّما يكون كلّ ذلك بشحذ الهمم المتوقّدة، وتوظيف العقل الجمعي ووضع الطُرُق المحكمة، تسلَّم لأيدٍ أمينة تُحسنُ ترجمتها إلى منجزات ناجعة فعَّالة على أرض الواقع، بعد اختيار الرجل المناسب في المكان المناسب، غايته السهر على التنفيذ المحكم الرشيد، وتوظيف كلّ مهارة وملكة ومُكنةٍ في سبيل اللّحاق بركب الحضارة، هذه الحضارة التي خلَّفتنا وراءها، ثمَّ بعدت الشقة بيننا وبينها.

الأسباب

يرى كثيرٌ من المفكرين أنَّ الأمة الإسلامية منذ انزلقت في وحل التخلّف وردغة الجهل، ووقعت فريسة بين أنياب الأمّيّة والفقر؛ لم تزد عن ترسيخ أسباب تخلّفها وجهلها وأمّيَّتها وفقرها، كي تغدو -بعد عقود- عقيدة جبرية راسخة عندها تقتل في المسلمِ كلَّ محاولة نزيهة للترميم والإصلاح والتغيير، وتعتقل بدورها كل فكرة تروم التأسيس والبناء والتشييد، "فسنن الله في خلقه أنّه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم".

وكلُّ ما صنعه أبناؤها "أنّهم منذ خمسين عاما لا يعالجون المريض، وإنَّما يعالجون الأعراض.. والمريض نفسه يريد منذ خمسين عامًا أن يبرأ من آلام كثيرة.. فاشتدَّ في الجري نحو الصيدلي -أي صيدلي- يأخذ آلاف الزجاجات ليعالج آلاف الآلام". فالعالم الإسلامي يحتاج إلى وثبة جماعية، أقلُّها ما يستغرق نُخَبَه (أو شبه نخبه)، ثمَّ تنتقل العدوى إلى بقية الأفراد.. والمؤكد في هذا أنَّ هذه الوثبة قد سبق حدوثها لكنَّها خمدت -أو أخمدت- بأياد خارجية تارة وداخلية تارات أخرى.. ولعلَّ ما نسف -على التحقيق- بجميع هذه المحاولات إلى سعير اللاعودة هو هذا الانقسام والتشرذم الداخلي والضمني الذي يتزيَّا بالمذهبية، والطائفية، والجهوية، والتوجهات الأيدولوجية.. فكل عصبة مارقة تريد الزعامة من نصيبها ولو على حمَّامٍ من الدماء، وقد لا تملك أدنى مؤهل لاستحقاقها!

إنَّ الزعامة والطريق مخوفة
غير الزعامة والطريق أمانُ

الخلاصة

فلا يُتصوَّرُ إذن أن تقوم لنا قائمة ونحن عاجزون عن رتق الصدع الداخلي، وإصلاح ذات البين، والعمل على مشروع وطني شامل يصبُّ في مصلحة الوطن والأمة، والتركيز قليلا عمَّا يجمعنا وغضِّ البصر عمَّا يفرقنا فرقا (من غير طائل)، ويجعلنا طرائق قِددا، وعندها وفقط يمكننا الكلام عن خطَّة معيَّنة وتحديد توقيتها والتفاصيل الكبيرة والصغيرة. فأمَّة دستورها القرآن، وشريعتها الإسلام، وقائدها الهادي العدنان (صلى الله عليه وسلم)، لا يمكنها أن تموت.. تغفو لكن لا تفنى، تسهو لكنها ستفطن بعد حين، تتعثَّر ثم تقف من عثارها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.