شعار قسم مدونات

زهور عمر لا تموت!

blogs الموت

كان لجدتي قط أسود اسمه كوكيتو، كنا نحبه كثيرا ونلعب معه، يستيقظ صباحا يأكل ويتمطى في أرجاء المنزل، لا نكاد نفرق بينه وبين باقي الأثاث، ينام هنا أو هناك، نادرا ما يخرج، كان يحب الكسل ويستمتع به، وكان الجميع يلاعبه ويبالغون في تدليله، ومرت السنوات على تلك الحال إلى أن جاء يوم فارق فيه قط جدتي الحياة، الأمر الذي كان صدمة لنا نحن الصغار فلم نفكر يوما أن قط البيت الكسول، سيغادره جثة هامدة.

قد يأتي على حين غفلة أو مع سابق انذار، يأخذنا من كل شيء، ويأخذ منا كل شيء، أحبابنا وأهالينا وحتى حيواناتنا الأليفة، نحزن على العجزة ونتحسر على الأطفال والشباب الذين يخطفون في عمر الربيع، الذين من المفروض أن يكبروا ويعمروا إلى أن يغزو بياض شعرهم سواده ويتسلق ظهورهم الأحفاد والحفيدات، غير أن قوانين الموت وحتميته لا تستثني أحدا بغض النظر عن شكله عمره وطبيعته الإنسانية أو مدى شعبيته بين الناس.

 

ورغم ما يقال من فلسفات وتحليلات في الموضوع إلا أنها تبقى مجرد زعم واجتهاد، أو بالأحرى تطفل، فالحياة تجربة لها بداية ونهاية تختلف مدتها من شخص لآخر لحكمة إلهية، والموت في حد ذاته ليس أبدا بالأهمية التي نعطيه إياها لأنه في النهاية تحصيل حاصل، أن نموت اليوم أو غدا أو بعد خمسين سنة أمر عادي جدا ومتوقع، فتلك سنة الله في الكون منذ الأزل وكل مخلوق فان وآيل إلى زوال. لكن يبقى الأمر الأهم من الموت هو ماذا بعده؟ ماذا عن الحياة التي تليه والاتجاه الذي سيسلكه كل واحد منا بعد البعث؟ ماذا عن الجنة وماذا عن جهنم؟ 

حين نمارس عادة ما لمدة طويلة تصبح من المسلمات في داخلنا وتدخل ضمن لائحة الأشياء التلقائية التي نقوم بها دون عناء أو تفكير، جزء من كل يوم أو كل أسبوع، كقهوة الصباح وشاي المساء، والذهاب إلى العمل وتناول وجبة الغداء، لا نقوم بالتخطيط المسبق لأي منها فقط نفعلها أوتوماتيكيا، كذلك هي حياتنا فقد عشناها مدة كافية لتدخل في لائحتنا الروتينية، فمن غير المعتاد أن نموت وقلما نفكر أننا قد لا نستيقظ غدا، وأن فنجان القهوة هذا سيكون آخر فنجان نشربه على كوكب الأرض، وهذه آخر ابتسامة وذاك آخر عمل أو قول سيكتب في صحيفتنا.

المشكلة ليست في الموت ولا في الخوف ولا حتى في الحياة، مشكلتنا أننا أصلا ميتون رغم أننا نمشي ونتكلم ونتنفس، مشكلتنا أننا جبناء نعجز عن عيش حياتنا والبحث عن رسالتنا ومواجهة مخاوفنا

للموت توأم سيامي هو الخوف، خوفنا من المجهول مما لا نعرفه أو مما نظن أننا نعرفه، فلم يعد أحد من هناك ليخبرنا بما حدث له، ليطمئننا عن الوضع فنرتاح أو يخوفنا فنتعظ ونستعد أكثر، وبالتالي فإننا لا نملك أجوبة لأسئلتنا رغم أننا نعرف الفكرة العامة عن حياة الآخرة ويوم الحساب، ولكننا نريد التفاصيل الدقيقة، نريد أن نعرف كيف نفلت مما قدمته أيدينا ونضمن مكاننا مع الصالحين؟ 

الخوف من الموت أنواع ودرجات يبدأ بالتوجس وينتهي بالهوس والانطواء والجنون، فحياتنا ملكنا وتمسكنا بها حقنا الطبيعي وفكرة الموت تشكل تهديدا لهذا الحق، الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه لعقارب الخوف، خوف من حادثة أو قتل أو أي عارض يدفننا تحت الأرض، وبالتالي فإما نخرس ذلك الصوت الذي يذكرنا بالنهاية المحتومة ونعيش كأننا لن نفنى أبدا أو نرفعه عاليا جدا فيسيطر علينا لنعيش حياة مليئة برعب الفقد والخسران.

والمشكلة ليست في الموت ولا في الخوف ولا حتى في الحياة، مشكلتنا أننا أصلا ميتون رغم أننا نمشي ونتكلم ونتنفس، مشكلتنا أننا جبناء نعجز عن عيش حياتنا والبحث عن رسالتنا ومواجهة مخاوفنا، جبناء لدرجة أننا لا نفعل شيئا سوى الاستهلاك الحيواني المجنون لكل شيء ولا شيء، نتمطى ونتكاسل كقط البيت أو ندفن رأسنا في التراب والذل كالنعامة، وفي كلتا الحالتين فإننا نموت ببطء ونحن نحسب أنفسنا من الأحياء و نمضي ساعات في الدعاء والابتهال للمولى أن يعوضنا في الآخرة عن شقاء الدنيا وأن يدخلنا الجنة، دون أن نحرك من أجلها ساكنا.

الله يعوض المجاهدين الشجعان، الفاتحين الأوفياء الذين نظروا إلى الموت مباشرة وصرعوه قبل أن يصرعهم، أدو رسالتهم قبل أن يمنعهم، سابقوه ولم يسبقهم، ولا أعني هنا جهاد السيف والدم، بل أقصد جهاد النفس بالنفس والعلم والقلم، بالخلق الحسن والحلم والحب والسلام، بالأثر الطيب في الأرض ونفع الأنام، لأن من يعجز عن فتح شباكه للشمس حتى يدفئ النور صدره ويختار طوعا الظلام والشقاء مبتليا نفسه بنفسه، لا داعي أن يخشى الموت فهو أصلا ميت مدفون ولا يدري.

الموت قدر حتمي لا مفر منه، فلا داعي لاستعجاله، أما الحياة فهي اختيار الشجعان الذين يدركون أنها جسر يأخذهم إلى الله وأن ما عند الله خير وأبقى، فيتركون في طريقهم إليه بصمة وقصصا وعبرا، أما الذين على أعمارهم خائفون وفي سكرة الوهم يسبحون، فأولى بهم أن يفيقوا من غفلتهم ويبحثوا عن معنى لوجودهم قبل أن يذهبوا إلى مكان منه لا يرجعون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.