شعار قسم مدونات

هل يستطيع الإنسان العيش دون عدو يحاربه؟

BLOGS صراع

مع انفراجة ثغر الصباح يتوجَّه صاحبي العصفور (سمير) يوميًّا ليقف أمام النافذة الزجاجية لمكتبي، يظل ينقر الزجاج لساعات، يتنقَّل بين الأمكنة على يمين ويسار النافذة الزجاجية بخفة وحيويَّة، مسددًا ضربات لا تحصى بمنقاره إلى صفحة الشباك الصافية. بادئ الأمر لم أستوعب لماذا يصرُّ على نقر النافذة بهذه الصورة الرتيبة المتكررة، حسبته جائعًا أو تؤذيه حرارة شمس الصيف، فتحت له كي يدخلَ. ولكن فاجأني برد فعله الغريب، لقد ابتعد، كلما فتحت النافذة ابتعد ناحية السور، يقف أعلاه مترقبًا حتى أغلقها وأبتعد، فيعاود الكَرَّة، يقترب من الزجاج وينقره بمنقاره الصغير، ويظل ينقر إلى أن تنتهي ساعات العمل وأنصرف، لا أدري هل يستمر نقرُه طوال اليوم أم يملُّ فينصرف إلى حيث مأواه؟ إلا أنه من الواضح أن عملية النقر الرتيبة تبدأ مع استيقاظ (سمير) صباحًا.

مؤخرًا – وبعد كثير من التأمل – فهمت لماذا ينقر (سمير) الزجاج، لقد تخيَّل للحظة أن انعكاس صورته في زجاج النافذة عدوٌّ لدودٌ له، يمثل تهديدًا حقيقيًّا على حياته، فاتخذ قرارًا بمحاربته، ولا يدري أنها نفسه، ويبدو أنه حتى هذه اللحظة لم يكتشف بعدُ أن عدوَّه لا يموت، أو على الأقل لن يموت بهذه الطريقة.

إن نمط الحياة البشرية لدى الكثيرين منا يشبه إلى حدٍّ كبير هذا النمط، يشعر الإنسان بالضآلة، وأن لا قيمة حقيقيَّة له، فيبحث لنفسه عن دور، يتصنع المعارك الوهميَّة، ويسعى في اكتساب العداوات ممن حوله، فإن لم يَجِد، صَنَع من أوهامه عدوًّا ليضيِّع حياته في محاربته وعدائه، يصنع بيديه فزاعة من القشِّ، ويمسكُها سيفًا مصلتًا لامعًا، ويتخيلها تقفز أمامه جيئةً وذهابًا، فيسدد إليها الضربات القاصمة، إلا أنها لا تموت! القصة لا تنتهي عند هذا الحدِّ، بل إنها في المنتصف تمامًا، فالأهم مما سبق هو صياغة الحكايات والروايات حول تلك المعارك التي انتصر بها صاحبُنا، وتصير حديث المجالس، تلمع عيناه التماعةَ الطَّيف في الظلمة حينما يقص على الأصدقاء كيف قضى على الشرير بضربة سيف واحدة، وفي النهاية هو صفر مضموم إلى جانب أصحابه الأصفار على أقصى اليسار.

الطائر الأحمق أخذ على عاتقه أن يحارب عدوًّا من زجاج، عدوًّا ليس له به طاقة، يحاربه بمنقار هزيل أخرقَ سرعان ما يتفتَّت، أو يصاب بارتجاج في مخه الصغير جرَّاء هذا النقر العصبي المضطرب

الإحساس بالضآلة والدونيَّة ينبغي أن يكون حاديًا نحو التطوير والتغلب على مواطن الضعف والهزيمة، وتنمية مواطن القوة والاستفادة المثلى منها، فكلُّ من يعيش على ظهر هذا الكوكب البائس لديه ما يكفي من السلبيَّات لملء منطادٍ أسود كبير، بل ربما ليس لدى الكثيرين من أبناء هذا العالم سوى مهارة إنسانيَّة واحدة، والمبدع حقًّا هو القادر على إخفاء عيوب نفسه، وتقليص مساحتها في حياته، وإظهار وتضخيم إيجابياته ومهاراته، والاستفادة القصوى منها وجعلها في المقدمة، فإذا نظر إليه الناس لم يجذب أنظارهم منه إلا لمعان الجانب المبدع، وعَمُوا وصمُّوا عن سلبياته المقيتة.

لو سلَّمنا لـ(سمير) جدلًا بأن انعكاس ظله في المرآة كان عدوًّا أعلن عليه الحرب بلا مناسبة واضحة، فإنه لم يتخذ له الأسلوب الأمثل في المواجهة، لم يدرس (سمير) إمكانات عدوِّه بواقعية ليواجهها كذلك بواقعية، وإنما استسلم لجرثومة غزت عقلَه مُفادها: أن المنقار قادر على فعل كل شيء، قادر على هزيمة الأعداء حتى ولو تسلحوا بالزجاج الصلب العاكس!

إن الطائر الأحمق أخذ على عاتقه أن يحارب عدوًّا من زجاج، عدوًّا ليس له به طاقة، يحاربه بمنقار هزيل أخرقَ سرعان ما يتفتَّت، أو يصاب بارتجاج في مخه الصغير جرَّاء هذا النقر العصبي المضطرب، أو تلفحه الشمس فيسقط في قصعة حساء لحدأة أو غُرابٍ، أو تهوي به الريح في مكان سحيق، ولو لم يصرف جهده المضني في الحرب والقتال، وصرف جزءًا من يومه – بدلاً من النقر المزعج- في الشدو على حافة الشرفة، لأدخل عليَّ البهجة، وصاغ بأحباله الصوتية لحنًا رائعًا يدفعني إلى مزيد من الإنجاز والإبداع.

لقد ظن (دون كيشوت) – ذلك البائس الحالم – أنه يمكنه إعادة زمن الفروسيَّة المضمحل بجسده النحيل، وسنِّه التي جاوزت الخمسين، وسيفه الصدئ، وحصانه الهزيل، وتابِعِه القرويِّ الساذج.. ظن أنه قادر على محاربة الشياطين العملاقة ذات الأذرع الطويلة (التي تبين له فيما بعد أنها لم تكن أكثر من طواحين هواء عملاقة)! لقد أصابه – كما أصاب سميرًا – مرضُ الغيبوبة عن الواقع، لقد أخطأ كلا البطلَيْنِ في تحديد الوزن النسبي لنفسيهما ولواقعيهما ولعدويهما؛ فجاءت النتيجة على هذا النحو الفكاهي الساخر: منقار يطرق الزجاج، وحديدةٌ صدئة تحاول إسقاط طاحونة شاهقة! لقد كفَّ (سمير) عن نقر الزجاج، ولا أدري هل اختطفه طائر جارح، أم ثاب إلى رشده وأفاق من غيبوبته الحالمة؛ فقرَّر التغريد في مكان أكثر مناسبةً له ولبني جنسه؟ أرجو أن يكون بخير، ووُفِّق للخيار الأخير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.