شعار قسم مدونات

هكذا أريد لطفلنا أن يكون!

blogs أمومة

يحب صغيري مشاركة أشيائه، بدءا بألعابه الصغيرة وصولا إلى الوجبات المحببة إليه، وحين يعود من المدرسة، يشارك معنا كيف مر يومه؛ فيحكي عن صديقه المزعج الذي جلس إلى جانبه، ويلقننا الكلمات الجديدة التي حفرها على مذكرته بخطه المدحرج الصغير، ثم يتوجه نحو أخته الأصغر سنا ليرى إذا ما كانت تتذكر الحروف التي علمها في اليوم السابق، ويشرع في تعليمها بتفاني المعلم أيام الأسبوع والفصول الأربعة.

 

تعلم صغيري كيف يفصح عن آماله وأحلامه وطموحه، ويلقى مني الأذن الصاغية؛ فلا أستخف به إذا خاطبني قائلا: "ماما، أريد أن أكون سوبر مان"، ولا أحبطه إذا ما راوده حلم بلوغ القمر. أعجب بطفلي حين أراه يواسي الحزين ماسحا دمعته مربتا بيده الصغيرة على كتفه، وأفخر حين أراه يقفز فرحا لفرح غيره، متأملة أن يكون أثرنا الطيب في الدنيا.

طفلي رجل صغير، إذا تكلم وزن، وإذا سكت أصغى واستمع، تعلم ألا يلفظ من الكلام غير طيبه وبذلك اتسم والتزم. ثرثرتي المتواصلة وشغف والده الذي لا ينضب كانا كفيلين ليجعلاه قادرا على الإفصاح والمشاطرة. لا يتوقف عنده علم، ولا يسكت عن معرفة.. يتحدث إلى البواب والخضار والجزار، ويعلم جدته أسماء الكواكب حاثا إياها على التذكر. لم تزعجني يوما أسئلته، وما اتسم فضوله يوما بالوقاحة، بل كان فيه من المنطق ما يدهشني أحيانا. كبر طفلي، وأصبح صاحب والده ورفيقه، يقربه طولا ويغرف منه من الحكمة ما استطاع. اشتد ساعد ذلك الطفل الذي كان البارحة يضاهي قبضة يدي حجما، وأصبح يحجب عني النظر إذا وقف إلى جانبي. فهم ابني الدين فتدين، وفهم الأدب فتأدب. وعلم أن لكل شيء معنى، وأن المعنى يفقه بالبصيرة لا بالبصر؛ فصار يرجو وضوح البصيرة وبلوغ المعنى في كل ما يحيط به. 

ما كان ولدي أن يمر من الحي إلا ويتوجه إليه أحدهم بدعاء، فقد قدر ابني ذوي الفضل عليه ورده فضلهم أفضالا، وما رد حاجة أحد في وجهه، بل كان كريما كثير العطاء

ابني الذي كبر على حبي، الآن يجرب حبا آخر، وينبض قلبه لمن ستحمل معه الرسالة وتشاطره الحياة. ها هو ولدي بالبذلة السوداء يقبل علي طالبا رضاي.. رضاي الذي حففته به منذ أن أنار محياه عالمي. يهمس له والده ناصحا وهو العارف أن شبله لن يخالف الأسد في طيب المعاملة ودفئها، ويقبلان على متنافسين: – من الأوسم؟ – هل يختار القلب بين ورديه؟ 

كان ولدي فصيح اللسان في صغره، فجعل الحب منه رجلا أكثر فصاحة؛ تراه يهمس لزوجته بطيب الكلام ووجنتاه محمرتان كأني أرى أمامي والده في المرآة، ويأتي مساء مثقلا بهموم العمل فيحكي لزوجته ما يؤرقه ويشرح لها ما يقلقه، يحذو بذلك حذو أبيه الذي ما مر يوم دون أن يجعلنا نفكر جميعا في حل لألغاز عمله المشوقة. ما تلقيت يوما شكوى من زوجته، وما تذمر منها يوما ولا تأفف، وأقفل بإحكام على خصوصيات بيته حافظا عرضه ومحافظا على صورة أسرته الصغيرة. 

ما كان ولدي أن يمر من الحي إلا ويتوجه إليه أحدهم بدعاء، فقد قدر ابني ذوي الفضل عليه ورده فضلهم أفضالا، وما رد حاجة أحد في وجهه، بل كان كريما كثير العطاء، يسد الحوائج بما استطاع دون أن يرجو جزاء ولا شكورا. ما رجا ولدي غير طيب الأثر. غطى الشيب أغلب رأسي، تأتي حفيدتي الجميلة تسألني: "جدتي، هل تتذكرين أسماء الكواكب؟"، فأتظاهر مرة أخرى بأني لا أعرف أسماءهم، ويقبل جدها الغيور محتجا لأنها خصتني بالتلقين، فيأخذها عنوة من حضني مؤرجحا إياها في السماء.. بينما أنظر إليهم بأعين الممتن حامدة الله على حبيبي العجوز، وحبيبتي الطفلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.