شعار قسم مدونات

عبقرية كازنتزاكيس.. محاولة لفهم جدلية الروح والجسد

BLOGS كازننتيس

لقد قرأت للعشرات من كتّاب الرواية الكبار العرب والأجانب.. أعترف أنني شعرت بالدهشة تارة وبالإعجاب تارة أخرى، لكن تجربتي مع قراءة روايات وكتب اليوناني الخالد نيكوس كازنتزاكيس كانت مختلفة.. إنه كاتب من نوع خاص كاتب بدرجة معلم للأخلاق الإنسانية والنبل والتصوف، وعالم نفس قادر على تحليل المشاعر البشرية بشكل مذهل، وصلت إلى هذه القناعة مع أول صفحات في "المسيح يصلب من جديد" مرورًا بـ "زوربا" و"الإغواء الأخير للمسيح" انتهاءً بآخر كلمة من كتابه "منقذو الآلهة".


إن جدلية الروح والجسد من الجدليات الأزلية والتي يبدو أنها ستظل إلى الأبد تشغل عقول المفكرين والعباقرة، ولقد كُتب في هذا الباب الكثير من النظريات والتصورات، لكن الطريقة التي عرض بها كازنتزاكيس أفكاره ورؤاه في هذه القضية مشجعة ومثيرة لفضول الاستمرار في القراءة وهي طريقة الرواية والأدب.. طريقة لا يمل معها القارئ من النصوص الجامدة بل يشعر أنه يتشرب المعاني والأفكار بانسيابية وسلاسة في إطار الأحداث والشخصيات والحبكات الدرامية المشوقة، وهذا الشيء الذي للأمانة أبدع فيه الكتاب الأجانب الكبار إذ جعلوا للرواية أبعاد عميقة أهم من مجرد مجموعة أحداث متسارعة.. أبعاد تسطرها الفلسفة وعلم النفس والقيم والأفكار العظيمة.


كانت رواية "المسيح يصلب من جديد" أول عمل أقرأه لكازنتزاكيس، فكرة الرواية قائمة على تراث مسيحي يتمثل بتجسيد رحلة المسيح عليه السلام بمسرحية تتوزع أدوارها على أناس عاديين، وكعادة كل عام وزع القس الذي يرعى القرية الأدوار على المواطنين فمنهم من أخذ دور بطرس ودور يهوذا ودور المجدلية وأما بطل الرواية فأخذ دور المسيح، تتسارع الأحداث فإذا بالأدوار المقرر لها الحياة داخل المسرحية فقط لعدة أيام تأخذ منحى جدي وتملأ الممثلين بصفات الشخصيات التي عليهم تمثيلها! حينها يصبح لكل سطر في الرواية أهمية وقيمة، تجد الصراع محتدمًا بين الخير والشر.. الزهد والتبذير.. الصلاح والفساد.. المترفين والفقراء، وتجد جرأة منقطعة النظير في تفنيد العادات الملتبسة بثوب الدين زورًا.. وتستمر المعركة إلى أن يكتب دم البطل نهايتها في مشهد كلما تذكرته تصيبني ذات الرعشة التي أصبت بها أول مرة، في قاعة الكنيسة يتجمع القرويون الغاضبون على ثورة "مانولي" بطل الرواية.. طالبين موته وإنهاء العصيان.. فيذهب إلى حتفه بقدميه فداءً لرفاقه وأتباعه الفقراء الضعفاء الصادقين.. يُقتل على مذبح الكنيسة وينثر القس دماءَه فوق رؤوس الحاضرين الفرحين بموته.


عاش نيكوس فقيرًا وكان زاهدًا في ملبسه ومأكله هكذا تقول زوجته، لكنني لست مستغربًا لأنني قرأت الزهد والنقاء ومعاداة الشهوات في كتابته ولقد انعكست طريقة رؤيته وعيشه للحياة في كتاباته بشكل مثالي

وأما رواية زوربا وهي الأشهر من بين رواياته.. فهي مدرسة في التحرر من القيود الدنيوية والطبقية والاجتماعية والنفسية والعمرية، وفرصة دائمة للبدء من جديد في أي لحظة مع عدم الخوف من القادم والأسف على الفائت، المعلم هو زوربا والمتعلم هو الراوي الذي يستفز زوربا لإظهار مواهبه الكامنة في صناعة الفرح والتعالي على الظروف القاهرة والمشاعر الآنية السلبية.. لقد أخذتني الرواية بعيدًا إلى تلك الجزيرة وبحرها وتضاريسها وتاريخها وعشتها بكل تفاصيلها، وتمعنت في كل كلمة نطقها زوربا لأنني واثق أن تلك الشخصية أودعت جل ما خلُص إليه كازنتزاكيس من حكمة وتجارب تستحق أن يعرفها الجميع


وأما في روايته "الإغواء الأخير للمسيح" فهي باعتقادي تحليل نفسي كامل لقصة سيدنا المسيح عليه السلام "استنادًا للتراث المسيحي"، نادرًا ما قرأت شيئًا بهذا العمق وبهذه الفلسفة المذهلة وبهذه القدرة غير المسبوقة على الغوص في مكنونات النفس البشرية، الجرأة الموجودة في هذه الرواية منقطعة النظير.. حتى أنها وصلت إلى الذروة باقتراح خيالي من الكاتب مغاير لنهاية المسيح "حسب التراث المسيحي" وهو ما أثبته لنا القرآن يقينًا، هناك تحليل غاية في الأهمية لكل الشخصيات الرئيسية في التراث المسيحي من سيدنا عيسى عليه السلام مرورًا بالحواريين والمجدلية وصولًا إلى يهوذا الذي أولاه الكاتب أهمية قصوى في التحليل وإيجاد الدوافع لتصرفاته وحتى لخيانته العظمى للمسيح.

 

إن الحالة التي تطبعها تلك الرواية في قلبك عجيبة، تُشعرك بعظمة الرسل والأنبياء عليهم السلام وقدرتهم الجبارة على التحمل، قد تستغربون هذه الملاحظة الناتجة عن قراءة لرواية تتمحور حول جوهر الديانة المسيحية، لكن الملاحظة التي قد تثير الاستغراب أكثر هي أنني لمست في أفكار هذا الرجل حسًّا صوفيًّا عميقًا، ونفَسًا رقيقًا يعكس بركانًا يثور في قلبه مع كل كلمة يكتبها.. ومع أنه يتخذ من التراث الديني المسيحي بوابة لإرساء أفكاره إلا أنني كمسلم أزداد اقتناعًا بتعاليم الإسلام وكفاءته وكماله حين أقرأ هذا النموذج الفذ الذي ينادي بجوهر تعاليم الإسلام الحنيف.. لقد كنت مصرًّا على صوفية الرجل حتى وقع في يدي كتابه "منقذو الآلهة-تصوف" والذي أكد رؤيتي.

undefined

منقذو الآلهة.. كتاب فكري فلسفي يلخص فيه كازنتزاكيس رؤاه كلها، فتراه يتنقل بلغة فلسفية بليغة بين علاقة الإنسان مع الآلهة وعلاقة البشر فيما بينهم وعلاقتهم بالحيوان والأرض، أكاد أزعم أن الكثير من الأفكار يجدها المتأمل في جوهر الإسلام، إن محتوى هذا الكتاب زاد عظيم لمن يريد أن يمتلئ إنسانية ومحبة وسلامًا، لا يخلو من الجرأة التي تحدثنا عنها مرارًا، الجرأة التي تبرد نيرانها أمطار الصوفية والحكمة والزهد.. في كل سطر مقولة تستحق أن تكتب بماء الذهب وفي كل فصل أفكار لو فُهمت لماتت الحروب والكراهية والعداوة.


إنني أدعو الجميع لقراءة هذه الروائع الخالدة التي تفسر بالتفصيل المهم موقع الإنسان ما بين روحه وجسده، والتي لم تكن مجرد أعمال أدبية قرأتها واستمعت بها بل تعلمت منها كثيرًا وتزودت بالعلم والعمق في طريقة التفكير والشعور، حتى أنني كنت أكتب الشعر بانسيابية بعد قراءة أي واحدة منها، كانت تملأني بالسلام والشاعرية والهدوء.. لقد عاش نيكوس فقيرًا وكان زاهدًا في ملبسه ومأكله هكذا تقول زوجته، لكنني لست مستغربًا لأنني قرأت الزهد والنقاء ومعاداة الشهوات في كتابته ولقد انعكست طريقة رؤيته وعيشه للحياة في كتاباته بشكل مثالي، وهذا ما نفتقده في الكثير من الكتّاب وهو الصدق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.