شعار قسم مدونات

تأملات (3).. عن النظام "الإسلامي" والدولة "العلمانية"

مدونات - العلمانية والدين

ركزت الديانة اليهودية، في مجملها، على إقامة "مملكة الرب" على الأرض، معتقدة أنها مسألة حتمية تسبق ظهور "المسيح المخلص"، وسفر "أيوب" من العهد القديم، يوضح ذلك، حيث يتحدث عن الأرض وإقامة العدالة فيها، ولهذا سار أغلب المفكرين اليهود أو ذوي الخلفيات اليهودية على هذا النهج، ومنحوا لدنياهم أكثر مما أعطوا لآخرتهم، أما النصرانية فقد ركزت على معالجة الكيان الروحي للإنسان، جاء في الإصحاح السادس من إنجيل متى: "لا يقدر أحد أن يخدم سيدين، لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال، لذلك أقول لكم: لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون"، وأما الإسلام فقد وازن بين الاثنين، قال تعالى في الآية العاشرة من سورة الجمعة "فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ".

يرى "بيغوفيتش"، أن الدين يمكنه التأثير في الدنيا في حالة واحدة فقط، وهي "عندما يصبح هو نفسه دنيويا، بمعنى أن يصبح معنيا بالسياسة في معناها الواسع، ومن هذه الناحية، يعتبر الإسلام، مسيحية أعيد تكييفها مع العالم"، ومن جانبه يعتبر "هيغل"، أن الإسلام استمرار لليهودية، ويقول مؤرخ الأديان الألماني، "ميرتشا إلياده" أن تاريخ العقل الإنساني عبارة عن "علمنة" عامة، يقف محمد على حافة سيادة المسيحية وبداية العصر العلماني الحديث، "أي أنه في النقطة البؤرية للتوازن التاريخي". بغض النظر عن مدى صحة النظرة الـأخيرة، ولكنها تبقى مقبولة في وجهة نظري بشكل كبير، الاختلاف البسيط يكمن في التفسيرات، فالدين الإسلامي الخاص، المتمم للإسلام العام، جاء ليربط الدنيا والآخرة ويعطي قواعد عامة للتعامل مع العالمين، ما بعد الموت وما قبله.

الدولة المدنية وفق التعريف المتداول، هي من تحمي كل أعضاء المجتمع بغض النظر عن توجهاتهم السياسية والفكرية وانتماءاتهم الدينية والعرقية، وتساهم في حفظ السلام بين جميع أفرادها

لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم، في المرحلة الأولى للبعثة، عاكفا وداعيا إلى فكرة الإسلام، وفي المرحلة الثانية بعد تأسيس دولة المدينة، صار قائدا سياسيا، ولم تكن المناصب في الدولة، مبنية على سلوك الفرد الشخصي التعبدي، بل كان المعيار هو "القوي الأمين"؛ أهل لتلك المسؤولية، ومستأمن عليها، لأن خدمة الناس بتولي شأن من شؤون الدولة مغايرة للتعبد الحنفي والنسوك لله، فلا بد من شروط، ولهذا حين طلب "أبو ذر الغفار" من رسول الله، توليته على أحد بلاد المسلمين، رفض ذلك، بدعوى أنه "رقيق". وقد كان الصحابة يميزون بين ما هو وحي، والأمور الدنيوية التي تقبل النقاش، وهذا ما ميز الدين الإسلامي عن باقي الأديان، فلم يكن له دولة دينية، بل كانت دولته مدنية، وهذا يتفق عليه جل الإسلاميين، ولكن الاختلاف الكامن، ربما في تعريف معنى المدنية؟ أو في وضع حدود لها، لأن المدنية قد تؤدي إلى دولة "علمانية".

الدولة المدنية وفق التعريف المتداول، هي من تحمي كل أعضاء المجتمع بغض النظر عن توجهاتهم السياسية والفكرية وانتماءاتهم الدينية والعرقية، تساهم في حفظ السلام بين جميع أفرادها، وهذا الأمر يتوافق تماما مع دولة المدينة التي نص دستورها المكتوب من قبل رسول الله، على حفظ حقوق اليهود الذين عاشوا بين أكنافها، ولكن هل تتطابق مع السعي الحالي للإسلاميين؟ هل الشروط التي توفرت في أولى مراحل بعثة هذا الدين متواجدة حاليا؟ بل هل كانت تسمى دولة المدينة بـ "الدولة الإسلامية"؟ أم أنها كانت إنسانية؟

 

يقول المستشرق الروماني كونستانس جيورجيو في كتابه "نظرة جديدة على السيرة النبوية"، معلقا على دستور المدينة، لقد ضم "اثنين وخمسين بندا، كلها من رأي رسول الله. خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولاسيما اليهود وعبدة الأوثان. وقد دُون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء. وضع هذا الدستور في السنة الأولى للهجرة، أي عام 623م. ولكن في حال مهاجمة المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده".

علمانية
علمانية "أتاتورك" بقدر ما لها، فإن عليها الكثير، لأنها حاولت في البداية تجريد الشعب من دينه قبل أن تستقر على جانب المؤسساتي فقط
 

خلال المرحلة التي أعقبت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان الصحابة، أو "جماعة" المسلمين الذين هم "بشر"، متوافقون على شكل نظام الحكم ومرجعيته (اجتهاد بشري)، الاختلاف الذي نشب بينهم، تمحور حول من سيحكم فقط.. وبعد توالي "أربع خلفاء"، سقطت الدولة بين يدي -حتى لا أقول على يد لأنها استمرت- معاوية بن أبي سفيان، والذي فرض نظام حكمه الخاص، لكنه في نفس الوقت لم يحدد مصدر تشريعات مغايرة، واستمرت الأمور على حالها سياسيا، ومع توسع دولة المسلمين، ظهر الخلاف والاختلاف، في العقيدة والمذهب والطائفة والعرق، وصارت الدولة تضم بين ظهرانيها الغير المسلمين، وصولا إلى يوم الناس هذا.

في الفترة المعاصرة، لم يعد للمسلمين "جماعة" رابطها "جواني"، بل صار لهم "مجتمع"، تربطه علاقات "برانية"، فيه المسلمون والمسيحيون واليهود والملحدون وغيرهم.. وفي المسلمين أنفسهم، هناك من يؤمن بالله ورسوله، ولكن رؤيتهم السياسية والاقتصادية تختلف عن "الإسلاميين"، وهذا لا يخرجهم في نظري من الدين، فكل شخص يحاول إصلاح الواقع وفق فهمه له. ما أحاول قوله هو أن ذات الشعب، الذي كان "جماعة" في الماضي وحدد شكل النظام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجب أن يرد إليه تحديد نظام حكمه، فلا وجود لشيء اسمه "نظام جاهز للتطبيق".

 

فعلى سبيل المثال، المجتمعات التي ترى أن اللباس الشرعي هو "النقاب"، لا يمكن أن يفرض نفس الأمر في بلاد أخرى، لأن التقاليد تختلف كليا في بعض الأحيان، وما فشل العلمانية "الجذرية" في تركيا إلا مثال عكسي يحتذى به، فعلمانية "أتاتورك" بقدر ما لها، فإن عليها الكثير، لأنها حاولت في البداية تجريد الشعب من دينه قبل أن تستقر على جانب المؤسساتي فقط، وهذا الأمر بصراحة لا أعلم من أين جيئ به، فحتى العلمانيات الأوروبية حين نشأتها لم تحاول منع دق أجراس الكنيسة، أو فرض لباس معين على المسيحيين أو منع آخر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.