شعار قسم مدونات

بين التفكير والعاطفة.. هذا التفسير يوضح لنا تقلبات القلب

blogs تأمل

اختار الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانط" لكتابه الذي انتقد فيه كل المعارف البعيدة عن التجربة عنوان "نقد العقل الخالص"، قبل أن يثبت ما نسفه، في كتابه الثاني المعنون بـ"نقد العقل العملي"، وهما المصطلحان اللذان استوحيت منهما تقسيمي هذا للقلب والذي انطلقت فيه من القرآن الكريم، مع الإشارة إلى أني لا أسعى لتشريح القلب كعضو، بل إلى تناوله من خلال كونه مصدرا لعدد من الأفعال، لخصتهما في قسمين وهما الموظفان في العنوان، على أمل أن يكون قصدي مفهوما وواضحا.

ربط القرآن الكريم، بين فعل "التعقل" و"القلب"، في التوصل إلى الحقائق الغيبية، وكل الآيات القرآنية التي أوردت الكلمة المذكورة أو مشتقاتها أو القريبة من معناها، تتحدث عن أمور لا محسوسة متعلقة بالإيمان، قال تعالى في الآية الخامسة والثلاثين من سورة غافر: "كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ"، والقلب المقصود هنا هو الذي يتوصل به إلى إدراك الغيبيات والإيمان بها وبما تأمر به، ومن جانب آخر، يقسم لنا ابن رشد "العقل" إلى ثلاث أقسام، البرهاني، والذي يمتلكه قلة قليلة من الناس، وهم الفلاسفة والمفكرون، والعقل المنطقي، الذي يتخذ الأدلة الجدلية سبيلا للنقاش، وهو عند المثقفين، والعقل الذي يستجيب للوعظ والإرشاد ويتبع العاطفة دون نظر وتفحص، وهو عقل العامة، وهذا التقسيم في رأيي يدخل في نطاق "القلب العملي"، مع الإشارة إلى أن صنفه الأخير مزيج بين شقي القلب.

 

ما أقصده بـ"الخالص"، هو مصدر فعل "التعقل" المتعلق بالقدرة على إدراك "الغيبيات" والأمور "الجوانية" بشتى أنواعها، وهو فطري قابل للتشوه، والقلب "العملي"، هو مصدر فعل "التعقل" المعني بإدراك "المحسوسات" وهو رهين بظروف النشأة القريبة أو البعيدة، حيث يكتسب المعطيات والأدوات والنتائج والمعارف الدنيوية انطلاقا منها.

فعل "التعقل" مرتبط بقسمي القلب، "الخالص" و"العملي"، ويمكن أن ندرك بالاعتماد عليه، قوانين العالم المادي، وسبل التطور والتقدم وحل المشاكل اليومية وعلاج الأمراض وتعلم العلوم الطبيعية

روى الإمام أحمد، حديثا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول فيه "رفع القلم عن ثلاث، عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يعقل". الأول نائم يؤاخذ بعد استيقاظه، والثاني مزال على فطرته، أي بقلبه "الخالص" في بدايته، والشق الثاني من القلب، الذي أطلقت عليه "العملي" مازال صفحة بيضاء، لم يبلغ أشده بعد، أما الثالث فقد فقد قلبه "العملي"، لأن الله لا يحاسب شخصا بقلبه "الخالص"، لأنه متدين فطريا، ورفع الحساب عن المجنون لم يأتي لكونه "لا يعقل ما يفعل"، بل لأنه ذو روح طاهرة "حنفية" كما خلقت في ذلك الجسد.

"فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ"، يقول مجاهد في تفسيره لكلمة فطرة: هي الإسلام، ولكي نعرفها أكثر لابد لنا من التعريج على حديث رسول الله: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه"، أي أن الفطرة تولد مع الإنسان، وحسب الآية فهي الإسلام، والمقصود منها في رأيي ليس نطق الشهادتين وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، لأنه من المستحيل الوصول إلى ذلك اعتمادا على الفطرة، الأخيرة تعني ثلاث أمور وهي المشار إليها في عدة آيات من بينها الآية الـ62 من سورة البقرة: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"، الإيمان؛ بالإله الواحد، الذي هو الله وباليوم الآخر، والعمل الصالح. هذه الأمور يمكن للشخص بلوغها حتى وإن نشأ في غابات وحده وبعيدا عن الإنسان.

ومن جهة أخرى، فإن نشوء إنسان وسط الطبيعة وبعيدا عن أي اتصال ببني جنسه، يؤدي إلى توازن القلب "العملي"، ونظيره "الخالص"، أي بعيدا عن التشوهات الطارئة عبر المجتمع، ويمكن للعقل "العملي" الذي نبت في تربة طبيعية أن يتعلم أساليب الحياة وسبل البقاء بالاعتماد على المحيط، وذلك دون إنتاج "الشر". القلب "العملي" قد يأتيك بالخير والشر حسب الظروف الاجتماعية، أما القلب "الخالص" فهو منبع الخير على الإطلاق.

فعل "التعقل" مرتبط بقسمي القلب، "الخالص" و"العملي"، ويمكن أن ندرك بالاعتماد عليه، قوانين العالم المادي، وسبل التطور والتقدم وحل المشاكل اليومية وعلاج الأمراض وتعلم العلوم الطبيعية وذلك عبر القلب "العملي"، كما بإمكاننا من خلاله بلوغ الغيبيات مثل وجود عالم آخر ، وخالق لكل شيء، وملائكة وجن وشياطين، اعتمادا على فعل "التعقل" المنبعث من القلب "الخالص"، وهو المشار إليه في الآية الـ37 من سورة ق، "إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ"، إضافة إلى هذا، فإن النوع الأخير، هو مصدر المشاعر؛ الحب والحزن والفرح والسعادة وغيرها.

القلب "الخالص" وحده يعطينا إنسانا مؤمنا بالفطرة، وهذا لا يوجد سوى في "المجنون" و"الطفل غير البالغ"، أما عامة الناس، فإنهم يتوفرون على شقي القلب معا، وفي حال طغى "العملي" على "الخالص"، ينتج لنا نموذج مشوه للإنسان؛ فارغ من جانبه "الجواني"، أما إن غلب الثاني على الأول، فنصير أمام "معتكف حنفي"، منعزل عن العالم "البراني"، وهذا تشوه آخر، وهو أسوء من الأول، لأن الأول "قد" يضر بصاحبه في الآخرة، ولكنه يخدم البشر في الدنيا، والثاني ينفع نفسه في الآخرة ولا ينفع أحدا في الدنيا، و"الخلق كلهم عيال الله، أحبهم إليه أنفعهم لعياله". وللإشارة، فإني لا أنفي وجود "العقل" بمفهومه المتداول، والذي هو إدراك الأمور، والقدرة على اتخاذ القرار بناء على المعطيات التي يتوفر عليها الدماغ والتي جمعها انطلاقا من محيطه وتجاربه، وما يرتبط به من وظائف، ولكني أعرفه بالقلب "العملي"، لأن القلب ليس تلك المضغة، بل هو أمر جواني غير محدد، ويصعب إن لم أقل يستحيل إعطاء تعريف واضح له.

القلب
القلب "الخالص" هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، ويتشاركه كل بني الإنسان، في حال لم يتلوث بنظيره "العملي"، الذي هو عبارة عن ورقة بيضاء خاضعة للظروف التي تحيط وسط النمو
 

"المجانين" الذين رفع عنهم القلم، يتوفرون على "قلب خالص" فطري، فهم خيرون بطبعهم، محبون للخير، رحماء بالخلق؛ قبل أيام قليلة صادفني أن رأيت مجنونا توقف عند قط في الشارع، انحنى إلى الأرض وحمله وبدأ يحدثه، لم أسمع كثيرا مما قال، ولكني متأكد ومن خلال بعض كلماته أنه كان يؤنس وحدة القط، وقد نجد "مدمني المخدرات"، يحملون إيمانا مبنيا على "يقين" تام، وهذا بسبب كون الخمر، يؤثر على فعل "التعقل" في القلب "العملي"، فيبقى لنا "الخالص"، الذي يحمل صفاته الفطرية، وفي هذا السياق، أتذكر واقعة حدثت معي قبل عشر سنوات، حين كنت عائدا من المدرسة الإعدادية، حيث يعترضني في الطريق بستان دأب مدمنو الخمر على ارتياده، ذات يوم وجدت أحدهم في المكان يحتسي "الشراب"، ألقيت عليه السلام بنية إظهار الاحترام لتفادي الأذى، -وهي نظرة مكتسبة من المجتمع- حيث رده، وأتبعه قائلا: انتظر لحظة. أريد أن أسألك. وقفت خائفا.. وقلت تفضل، قال لي حين تراني على هذه الحال ماذا تقول؟ أجبته بشكل عفوي بعبارة: الله يعفو عليك. نظر إلي بطريقة يعجز القلم عن وصفها، وقال: الله يرحم الوالدين. وتركني لحال سبيلي.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أثناء تقبيله للحجر الأسود، "إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك"، وفي هذه الواقعة يتجلى لنا شقي القلب الذين تحدثت عنهما فيما سبق، فقوله "أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع"، جاء اعتمادا على فعل "التعقل" المنطلق من "القلب العملي"، بينما إيمانه بوجوب التقبيل بعد أن رأى رسول الله يفعل لك، مستمد من فعل "التعقل" المعتمد على القلب "الخالص".

القلب بشقيه "الخالص" و"العملي"، قد يعطينا نموذجا لإنسان مفكر في حال حظي بالنوعين معا، وبأدواتهما؛ الحواس؛ "وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ"، كما يمكن أن ينتج لنا شخصا عالما ولكن استخدامه لعلمه "شرير"، وهذا في حالة تغلب "العملي"، على "الخالص"، ويمكن أن يستشهد شخص بوجود "ملاحدة" متخلقين أكثر من المتدينين بالرغم من أن "قلبهم الخالص" ضائع في غياهب شقيقه "العملي"، وهذا لا يتنافى مع ما أوردته هنا، فالنوع الأخير، مرهون بالمحيط الاجتماعي الذي نشأ فيه، وحتى وإن كانت الأخلاق كسلوك لا تستمد بالضرورة من الدين الذي ينبعث من القلب "الخالص"، فإن أصلها ديني لا محالة، لأنه لا وجود للأخلاق في "الطبيعة"، كما لا وجود لها في "القلب العملي"، الذي ابتكر لنا "القتل الرحيم". القلب "الخالص" هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، ويتشاركه كل بني الإنسان، في حال لم يتلوث بنظيره "العملي"، الذي هو عبارة عن ورقة بيضاء خاضعة للظروف التي تحيط وسط النمو.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.