شعار قسم مدونات

فيلم "التجرد".. هكذا صوّر وهم الحلم الأميركي

blogs فيلم وثائقي التجرد

تصف الروائية إليف شفاق الدرويش المتصوف شمس الدين التبريزي: "بأنه رجل متشح بالسواد من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، ضامراً، نحيفاً، يرتدي عباءة طويلة ذات قلنسوة، ينتعل حذاء طويلاً من جلد الغنم، يحمل بيده زبدية خشبية من النوع الذي يحمله الدراويش المتسولون لتحطيم كبريائهم الشخصي، وزهوهم بأنفسهم" بهذه العباءة وهذا الصحن فقط كان يطوف المدن يبحث فيها عن الله. كان هذا في القرن الثالث عشر الميلادي، الصورة تتكرر حديثاً في الفيلم الوثائقي الأمريكي minimalism، والذي يعرض في إحدى لقطاته شاباً أمريكاً يجمع أقل كمية من الأمتعة في رحلة ستستمر لعشرة أشهر، بنطال جينز واحد، عدة قمصان، وحقيبة صغيرة للزينة، ومجفف شعر، فملابسه القليلة قد لا تمكنه من انتظار غسلها وتنشيفها.

هؤلاء الشبان الذي يعرض الفلم قصتهم يسمون أنفسهم "المتجردين"، اذ يحاولون أن يتجردوا من المنتجات العبثية في حياتهم، ويواجهوا الاستهلاك القسري لها، ويقفون في وجه الإعلانات التي تدعو إلى شراء المزيد للحصول على السعادة، هذه السعادة التي اكتشفوا في نهاية المطاف أنهم يجرون خلفها دون وعي، وهي تجري أمامهم دون توقف، ما أوصلهم إلى مرحلة من اليأس. أبطال الفيلم الوثائقي هذا، وصلوا إلى مستويات متقدمة من النجاح في عملهم، لكنهم وجدوا أنفسهم في دوامة العمل الدؤوب لكسب المال، وشراء الحاجيات التي تمنح السعادة والراحة لكنهم وفي كله مرحلة وصلوا اليها اكتشفوا أن الحاجيات التي يمتلكونها من سيارات وكماليات وبيوت جميلة لا تكفيهم، فعادوا إلى العمل لشراء المزيد.

"كنت أعيش الحلم الأمريكي، وأدركت أنه لم يكن حلمي" هذا ما جاء على لسان أحد ضيوف الفيلم الوثائقي، أن مستوى العيش المتقدم الذي يعيشه الشعب الأمريكي، كان وهماً والمستفيد منه هم سماسرة "وول ستريت" فقط، كميات إنتاج كبيرة يتم تسويقها لكن المستهلكين لا يستفيدوا منها، هم فقط مثل فئران في عجلة المستثمرين. أنتج الفيلم عام 2016، وهي ذات الفترة التي ذاع فيها صيت المتصوف جلال الدين الرومي بين الشبان الأمريكيين، واستهجن البعض ذلك، وكتبت مقالات عديدة حول الإقبال على ترجمة وشراء كتب الرومي المسلم في أمريكا، وما هذا الإقبال على روحانية الرومي إلا هروب من الرأسمالية المادية التي لا تقيم أي اعتبار للأفراد، وجل هم رجالها هو الكسب.

قد نصل إلى حالة التجرد هذه بعد عناء روحي وفهم واضحٍ لفقدان السعادة، لكن هل يمكن أن نتجرد منذ البداية، أم سيسمى ذلك استسلاما؟ ووحدةً وانقطاعاً غبياً عن العالم؟ كتبت هذه الملاحظة وأكملت مشاهدة الفيلم فجاء الجواب على لسان أحد الأبطال المتجردين يقول أن التجرد ليس أسلوب حياة متطرف، فهو يؤمن بالجودة لا بالكمية. ويخرج أخر بعد عدة مشاهد ليقول أن المتجرد الأعظم يكون ناسكاً منعزلاً، أو راهباً، لكن هذا لن يغير العالم، فيرد آخر ان للطيف وجهين، ولا مشكلة في الاستهلاك، المشكلة الحقيقة في الاستهلاك القسري، وأن نكون ضحية الإعلانات المباشرة وغير المباشرة، التي تصور لنا الحياة المثالية لنجري خلفها دون نهاية.

وقد طرح خيارات عديدة للتجرد، كالبيوت الصغيرة، ومشروع "برجيكت 333" الذي تحاول من خلاله الفتيات ارتداء 33 قطعة ملابس تشمل الإكسسوار والحقائب خلال 3 أشهر، وقد عرض الفيلم تجارب عديدة للفتيات نجحن في ذلك دون أن يشعر من حولهن بذلك. لم يأتي الفيلم على ذكر مصطلح "الرأسمالية" بكل وضوح، انتقد سماسرة وول ستريت، والحلم الأمريكي، الذي باعوه للجماهير على مدار مئة عام ليجنوا المال فقط، فأفقدوهم الروحانية متعة البساطة.

السؤال هنا: هل نحن الفلسطينيون بحاجة إلى هذا التجرد، وهل وصلنا إلى هذه المرحلة من الاستهلاك القسري للمنتجات وأنماط حياة مثالية، خارجة عن طبيعية الفلسطيني. والملفت ما كتبته صحيفة "شيكاغو تربيون" تعليقا على شيوع الروحانية وقصائد جلال الدين الرومي في أمريكيا: "إذا عاد إدوارد سعيد سيسخر، كعادته، من برجوازيتنا التي جعلتنا نفتن بقصائد إسلامية من قبل 700 عام".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.