شعار قسم مدونات

ولادة الروح.. جنينُ روحٍ ولد بعد ضلالات الحياة!

blogs عبادة

يَضْيقُ القلب شيئاً فشيئاً إلى آخِرِ حلقة ضيقٍ ومَخرج، وتنتَفِضُ الروحُ كَمَوجٍ مُتلاطم لا يعرف وِجْهَتَه، وتَنْفَرد الذاتُ مع ابتلاءاتها فلا يعود للوصل البشري سبيلٌ للعون والتخفيف من الآلام التي تصارع حقيقةَ صدق الإيمان وثباتِ العقلِ للتعقل والتدبر وحقيقة الرضا بالقدر، تفيض الأقدار بِشَّرِهَا المُغَلَفِ باللُطف وكأنها نارٌ سعير، وهواءٌ محجوبٌ عن الأنفاس وطوفان يُعَّري كل ما علق فينا من شعائرَ إيمانية ظاهرية، وقُبحٌ لكل صور جمال الدنيا والآخرة بما لا عَينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلبِ بشر، وهنا يَطفو ما يختلجه القلب وبما تختلط به الروح من حقائق القلب والروح من معان الحب والإيمان والصدق والصبر التي ما عادت كما عشناها من قبل في زمن الرفاهية والحياة التي تخلوها ابتلاءات حقيقية.

تصفعنا الابتلاءات في أيام متتالية أو أشهر، أو سنين أو إلى أن يطلق الجسد الروح، والأعْيُن تراقِبُ ما تجري به المقادير من خوف وجزع، من دم ولحم يُستنزف بلا رحمة، من ضعف ومهانة، من فراق ولوعة، من كل ما يجردنا من كل معاني الإنسانية والوصل بالحبيب لاستسقاء أسمى معاني الحب والقوة والعون، لعل ذاك الوصل يعين على الصبر والتماس حقيقة الإيمان. ما عادت السكينة كما عهدناها، ولا الحُب كما عشناه، ولا الصداقة إلا صور جمالية زائفة، كثيرٌ من الوجوه اختلفت والنفوس تقلبت والقلوب قُيِّدَت بما لا يناسبها من زيف حقيقتها ومن الأمانة الوثقى التي وكلها الله لتُعقَد القُلوبُ عليها.

وفي أوج مواجهة كل ذلك تتكاثر الأسئلة عن الله وأسمائه الحسنى وسر الوجود في غمرة الخوف والجزع والألم والفراق، في خِضَّم الابتلاءات والنفس والروح في صراع ما بين التماس السكينة والشفاء من جهة، ووصل الله بطلب الخلاص والرحمة والثبات على الإيمان والتصديق بحكمة القدر من جهةٍ أخرى، وهنا يبدأ الجهاد بما عُقد عليه القلب وتبدأ الروح تبحث عن وجهتها في إيجاد الإجابات عن التساؤلات، تبحث عن فضاء تنثر بها أثقالها وتَفيضُ بِكُل ما يُناقِض أفراحها، وإن طال السفر في أمواج الخضوع للضعف فلا بد من أن ينكشف البصر وتستنيو البصيرة وتستقر الروح إلى حيث خالقها وبارئها، وهنا تغفو أعيننا في كل ليلة من الألم بأمل لقاء نفحات سكينته وشمل عفوه ورحمته وانكشاف لطفه ببصيرة منيرة وقلب متطمئنٍ راغب غير ساخطٍ وراضٍ، وروح مجلية بحضرة الله.

كم تشتاق الروحُ لروحٍ تختزلها من شباك الأرض إلى رحاب السماوات وإن أغرقتها الأحزان والهموم، روح تُشابه الروح وتَنْتَقِصُ لقاءها، فتلقاها متلهفةً لِيَغفو الرأس على الكتف وتتجرد الذات من ثقل الأنا

هي الروح، تتوالى الأقدار عليها بِحُلوِها ومُرِّها وتتوالى الولادات عليها كلٌ حسب اجتهاده ومبتغاه وتتبدل العلاقات الإنسانية بحسب الظروف واحتياجات أرواحنا وإراداتنا وعزائمنا، فولادات الأرواح تتلوها علاقات جديدة ووصل تسمو به كل روح بحسب ما تبتغيه من الرقي بالذات وتقربها للخالق بجماله وعدله أكثر فأكثر. 

يقول ابن الرومي: "لم يكن أبداً من شروط السير إلى الله أن تكون في حالة طُهرٍ ملائكية، سِرْ إلَيْهِ بأثقال طينك فهو يحب قدومك عليه ولو حَبْوَاً"، وما الطريق إلى الله إلا والثِقَلُ يَمْلأ جَنَبَات النَفْس، والبَصَر يَحُده صراع بفهم حقيقة حكمة ما وراء القدر، وروحٌ تستنجد بدوام البحث وثبات ما عُقِد عليه القلب، وهجران كل ما أثقل الروح إلى أن حطَّت إلى الارض، وأن نُنْصت لآلام تَبْعَثُ علينا بِرُسُل لنُنصِت إليهم وإن طال زمن الإنصات، وأن نتابع بدوامٍ العزمَ على كسر الحواجز التي في داخلنا لعلنا نجد الحب ونلتمس السماء ونفتح للنور طريقاً يكسر ظُلمات القلب ويأنس بحب ورحمة الرَّب، إيمانٌ يتجلى وروحٌ تنطلق بالجسد إلى حيث الرَوح والرُوح في أرقى وأطهر السماوات.

كم تشتاق الروح لبلوغ السماء بالجسد، وإن حَطَّت الأجساد على الأرض في كل ما يُثقِلُها ويُعَريها، فنخصف بورق الجنة من الرحمات والمغفرة لنواري سَوءَات ظنوننا بالخالق، وضعفنا في كل وخزة في الإيمان بحقيقة الحكمة بالقدر. وكم تشتاق الروحُ لروحٍ تختزلها من شباك الأرض إلى رحاب السماوات وإن أغرقتها الأحزان والهموم، روح تُشابه الروح وتَنْتَقِصُ لقاءها، فتلقاها متلهفةً لِيَغفو الرأس على الكتف وتتجرد الذات من ثقل الأنا، وترمي بأسئلة حقيقة الكون والبشر والهموم، جنينُ روحٍ وُلد بعد ضلالات الحياة ليأنس بجنين روح بعد أن ضَلَّ وضَّل في قاع العتمة، حُبٌ يجمع وربٌ بحكمته ورحمته ألَّف بمشيئته، نور يسطع من روحٍ وروح لتتلاقى وتتعافى وتتصافى من كل ما شابَها من ألم وضياع، والطريق تطول، لكن لا بأس لا بأس ما دامت الأرواح تألَمَت وتوالدَت وسمت وارتقت وبحثت والتقت ثم بلقائها ارتَقَت وارتَقت بإذن الله. اللهم هداك وروح من طيب روحك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.