شعار قسم مدونات

لكي تعيش في الشركات عليك أن تكون آلة!

blogs التطوع

كيف يمكن أن نجد المعنى والهدف من حياتنا وفخرنا بذاتنا بينما لم يعد مكان العمل يقدمها، لماذا كل هذا الاهتمام بتصميم الروبوتات بينما يمكن تحويل البشر إلى آلات؟ في يناير/كانون الثاني، حصلت شركة أمازون على براءة اختراع إسورة يمكنها تتبع تحركات العمال. إذا تم تطوير هذه التقنية، يمكن أن تمنح الشركات سيطرة شبه كاملة على قوتها العاملة.

   

قبل أسبوعين أجرت صحيفة "الغارديان" مقابلة مع شاب يدعى آرون كولاواي والذي يعمل ليلاً في مستودع لشركة أمازون. عليه أن يضع 250 قطعة في الساعة في العربات المناسبة. يقول: إن عمله متكرر ومعادي للمجتمع بل يعزله عن المجتمع "أشعر وكأنني فقدت ذاتي. تفاعلي الرئيسي مع الروبوتات". يحدث كل هذا حتى قبل أن يتم طرح الأساور التي ستراقب تحركات العمل.

 

أرى قصة دون لين الرهيبة –وهو سائق يعمل لدى شركة توصيل طرود عالمية، انهار ومات بسبب مرض السكري- كمثال آخر على نفس التجريد من الإنسانية. بعد تغريمه 150 جنيهاً استرلينياً من قبل الشركة لأخذه يوم عطلة لرؤية طبيبه، شعر هذا "المقاول الذي يعمل لحسابه الخاص" (الذي كان يعمل بالواقع بدوام كامل للشركة ويرتدي زيها الرسمي) أنه لم يعد بإمكانه متابعة مواعيده في المستشفى. وكما يقول الفيلسوف بيونغ شول هان، في الاقتصاد المؤقت [1]، "كل فرد هو سيد وعبد في آن واحد. لقد أصبح الصراع الطبقي صراعاً داخلياً مع الذات".

 

كل العمل الذي تم تقديمه خلال الحقبة الديمقراطية الاجتماعية –بما في ذلك الأمن الاقتصادي والشعور بالانتماء والحياة الاجتماعية والتركيز السياسي- تم تجريدنا منها: أصبح الانعزال عن المجتمع الآن شبه كامل. ويهدد "منهج تايلور الرقمي" –وهي نسخة جديدة من نظرية الإدارة العلمية التي تقسم الوظائف المثيرة للاهتمام إلى رتابة تذهب العقل-  بالحط من كل شكل من أشكال العمل تقريباً. يتم تحويل العمال إلى مجموعة دمى في عصر ما بعد الصناعة. هذا عصر الروبوتات، وأنت أحدها.

 

لقد زود العمل التطوعي جين وكيران بما كان قد وعد العمل بتوفيره ذات مرة: معنى، هدف، مكان، مجتمع. وهو بالتأكيد المكان الذي يقبع فيه الأمل

إذن أين نجد هويتنا والمعنى والهدف من حياتنا وشعورنا بالاستقلالية وفخرنا بذاتنا وفائدتنا؟ الإجابة بالنسبة للعديد من الناس هي التطوع. خلال الأسابيع القليلة الماضية، قضيت وقتاً لا بأس به في الخدمة الصحية الوطنية، وأدركت أن هناك نظامين للصحة العامة في المملكة المتحدة: النظام الرسمي الذي يؤدي معجزات يومية والشبكة التطوعية التي تدعمه.

 

أينما نظرت، أجد هناك إعلانات نشرها أشخاص يساعدون في المستشفى ويديرون مجموعات دعم للمرضى الآخرين ويجمعون الأموال للبحث والمعدات. بدون هذا الدعم، أظن أن النظام الرسمي سوف ينهار. كما سينهار الكثير من المرضى جراء ذلك. تشير بعض الأوراق البحثية الرائعة إلى أن التفاعلات الإيجابية مع الآخرين تعمل على تعزيز الشفاء الجسدي والحد من الألم الجسدي والتقليل من القلق والتوتر لدى المرضى الذين على وشك إجراء عملية جراحية. مجموعات الدعم تنقذ الأرواح، كذلك يفعل أولئك الذين يجمعون الأموال للعلاج والبحث.

 

تحدثت في الأسبوع الماضي إلى متطوعين بارزين، كان من بينهم جين شاتو التي بدأت بجمع التبرعات لمكافحة سرطان الثدي بعد تشخيص أختها بالمرض. حتى ذلك الوقت، كانت تعيش حياة هادئة، تربى أطفالها وتعمل في متجر حقائب سفر تملكه شقيقتها. وسرعان ما اكتشفت قوى لم تكن تعرف أنها تمتلكها. بعد وقت قصير، بدأت بتنظيم عرض أزياء سنوي جمع على مدار ثلاثة عشر عاماً ما يقرب من 400 ألف جنيه إسترليني. ثم، بينما كانت مستلقية إحدى الليالي راودتها فكرة عظيمة: لماذا لا تزين مسقط رأسها باللون الوردي مرة في السنة لحشد المجتمع بأكمله في القضية؟ مضى على افتتاح شركة "ويتني إن ذا بينك" Witney in the Pink الآن سبعة عشر عاماً، تشارك جميع المتاجر في تنفيذ فكرتها: حتى الجزارين يصبغون ملابسه عملهم باللون الوردي. يجمع الحدث تبرعات تصل إلى ستة آلاف جنيه استرليني على الأقل في السنة.  قالت لي جين: "لقد تغيرت حياتي كلياً. أعيش حياتي بكل تفاصيلها في محاربة سرطان الثدي. لا أعرف ماذا كنت سأفعل من دون جمع التبرعات، ربما لا شيء؛ لقد أعطاني دافعاً. اكتسبت الكثير من الخبرة في تنظيم هذه الأحداث دفعت مؤسسة مكافحة السرطان "Against Breast Cancer" بتعيينها رئيسة مجلس الأمناء في عام 2009، وهو منصب ما زالت تحتفظ به اليوم.

 

بعد عملية زراعة قلب جديد، تبرع كيران ساندويل بقلبه القديم لمؤسسة "the British Heart Foundation"، ثم بدأ يفكر في كيفية دعم عمل هذه المؤسسة. أخبرني: "كنت أحيا في حلقة مفرغة من العمل حيث لم أستمتع بعملي منذ سنوات، متسائلاً عما أفعله". قرر السير على طول الساحل في المملكة المتحدة بأكمله لجمع التبرعات ورفع الوعي.قطع حتى الآن 4262 ميل وتبقى أمامه 538 ميلاً. أطلق على مبادرته "مسار قلبين" (A Trail of Two Hearts). وأضاف كيران عن تجربته: "لقد اكتشفت أنه يمكنك تحقيق أي أمر إذا عقدت عزمك على ذلك. مهما صادفت في حياتي يمكنني التأقلم معه. لم يعد هناك ما يمكنه أن يقلقني الآن".

 

في العديد من المهن ترتفع مكانتك بشكل طردي مع الضرر الذي تسببه؛ كلما زاد تدميرك لحياة الآخرين، زادت مساهمتك بقيمة الأسهم ولكن عندما تتطوع، فإن الاحترام الذي تكتسبه يرتفع بالخير الذي تفعله
في العديد من المهن ترتفع مكانتك بشكل طردي مع الضرر الذي تسببه؛ كلما زاد تدميرك لحياة الآخرين، زادت مساهمتك بقيمة الأسهم ولكن عندما تتطوع، فإن الاحترام الذي تكتسبه يرتفع بالخير الذي تفعله
 

مثله مثل جين، لقد كشفت له هذه التجربة عن قوى غير متوقعة، حيث قال: "لم أكن أعلم أنه كان لدي القدرة على الحديث إلى أي شخص". لقد أشعلت رحلته أيضاً حب الطبيعة في قلبه. "يبدو أنني خلقت هذه الفقاعة الرقيقة، أقصد أن ما يحدث لي كل يوم بيومه رائع. أريد محاولة إظهار الجانب المشرق من الحياة للآخرين". بالنسبة لجين وكيران قد زودهم العمل التطوعي بما كان قد وعد العمل بتوفيره ذات مرة: معنى، هدف، مكان، مجتمع. وهو بالتأكيد المكان الذي يقبع فيه الأمل.

 

ولكن في حين أن هناك فرصة ضئيلة في العثور على وظائف تتوافق مع آمال الطلاب وشخصياتهم وتوظيف قدراتهم، هناك فرصة كبيرة أن يتوافق ذلك مع فرص تطوع جيدة. ربما حان الوقت لأن نرى التطوع على أنه أمر محوري في هويتنا بينما يمسي العمل أمر ثانوي؛ حيث أن العمل أمر يتعين علينا القيام به لكنه لم يعد يحدد هويتنا. عند سؤال الآخرين عن عملهم أود سماع رد مثل: "أتطوع في بنك الغذاء وأركض في سباقات الماراثون. في عطلتي، أعمل من أجل جني المال".

 

هناك تأثير جانبي بلا شك. يمتلئ العالم بأشخاص يبحثون عن المكانة من خلال عملهم. في العديد من المهن -مثل المهن في قطاع الوقود الأحفوري وصناعة الأسلحة والأعمال المصرفية والإعلانات- ترتفع مكانتك بشكل طردي مع الضرر الذي تسببه؛ كلما زاد تدميرك لحياة الآخرين، زادت مساهمتك في قيمة الأسهم. ولكن عندما تتطوع، فإن الاحترام الذي تكتسبه يرتفع بالخير الذي تفعله.

 

علينا مواصلة الكفاح من أجل وظائف أفضل وظروف عمل أفضل. لكن المعركة ضد تكنولوجيا مكان العمل غير متكافئة. إن النضال الاقتصادي الحقيقي الآن هو إعادة توزيع الثروة التي تولدها العمالة والآلات من خلال الدخل الأساسي الشامل [2]، وإحياء المشاعات وغيرها من السياسات المماثلة. وإلى أن نحقق ذلك، سيتعيّن على معظم الناس أخذ أي عمل متاح، لكن لا يمكننا السماح للعمل بأن يمتلكنا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:
[1] الاقتصاد المؤقت: سوق عمل يتميز بسيطرة وانتشار العقود قصيرة الأجل أو العمل المستقل.

[2] الدخل الأساسي الشامل (universal basic income): أو المرتب الأساسي هو راتب حكومي تدفعه الدولة كحق للمواطنين. كل المواطنين في بلد لهم الحق في الاستفادة من هذا الراتب سواء كانوا يعملون أو لا يعملون، أو حتى في حالة حصولهم على مدخول آخر.

مترجم عن: (مونبيوت)

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.