شعار قسم مدونات

هل بإمكاننا إنتاج علمانية بمعايير إسلامية؟

blogs العلمانية

إن الدولة المدنية التي سبق تعريفها في الجزء الأول من هذا المقال، والتي تتوافق مع دولة "المدينة"، لا تتطابق مع الدولة التي تدعو إليها كتابات جل الإسلاميين في وقتنا الراهن ولا العلمانيين الجذريين، وبعيدا عن المبررات التي يذكرها بعض "الإسلاموفوبيين"، حول الحدود والجزية وغيرها.. التي لا أرى فرقا بينها وبين تهافت "العلمانوفوبيين"، على طرح مواضيع العلاقات الجنسية والمثلية، وكلاهما أفكار ساذجة ناتجة عن عدم الاطلاع على كلا "الفكرتين"، مع احترامي لأصحابهما، ولكن سأتحدث من زاوية أخرى وبشكل بسيط.

لا يمكن تحريم شيء لا يراه الشعب محرما في واقعه، هذا في حال كان مسلما أما إن لم يكن فذلك من كبائر الأمور، "فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّر، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ"، أما إن فعلت، تكون قد وضعت شيئا لم تعتد نفوس "الناس" عليه، وسرعان ما سيغضبون ويخرجون للاحتجاج، وفي أحسن الأحوال لن تفوز في الانتخابات القادمة.. كون "الخمر" مثلا، حراما دينيا بسبب أضراره الاجتماعية، لا يعني منع بيعه أو تحريم شربه، بدعوى النظام الإسلامي، في الأمور الخاصة ومنها المتعلق بالحلال والحرام، لا دخل للدولة "فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ"، فما معنى أن أكون مسلما والإسلام يحرم الخمر، والأخير لا يباع أصلا في البلد؟ "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ".

لنفترض أن الدولة المعاصرة طبقت النظام الإسلامي المزعوم، أي شكل إسلامي ستلبسه؟ بفهم السلفي، أم إخواني؟ أم الشيعي أم الزيدي؟ أم من من الطوائف الموجودة حاليا والتي تدعي أنها تملك حقيقة الدولة وحل المشاكل الدنيوية، والتي لم تكن في مجتمع صدر الإسلام؟ طبعا الكل يقول نحن الصائبون، لكن لما لا يحاولون التوقف عند المشترك، مع كل شركاء الوطن، وما رفع الإسلام الجزية، والتي هي ضريبة عن الخدمة العسكرية، عن كل أهل الملل والنحل الذين اختاروا الانضمام للجيش في مواجهة الخطر الخارجي، إلا دليل واضح على وجود رابط آخر بين الناس، يتجاوز الدين.

يجب علينا تكييف العلمانية مع الوطن وخصوصياته، بعبارة أخرى علينا "خوصصة العلمانية"، أي أن يساهم الشعب وتقاليده وأعرافه وثقافته وواقعه فيها

انطلاقا من الدولة التي أسسها رسول الله في المدينة، والواقع الحالي للمسلمين، أظن، والله أعلم، أن العلمانية "الجزئية" كما يطلق عليها، والتي يفصل فيها الدين عن الدولة وليس عن المجتمع، (مع أن هذا الأمر الأخير هو من تأسيس الإسلاميين المناهضين للفكرة أكثر منه صادرا عن مؤسسي العلمانية)، لأن فيها تطبيق لقاعدة ربانية، وهي "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ"، لا تفريق بين أي دين، حتى في تسمية الدولة تسمى "كذا"، وليس دولة "كذا الإسلامية"، لأن في ذلك إقصاء للغير، ومن حق اليهودي أن يفتخر بدولته، لكن حين سيطلق عليها اسم ديني سيشعر بالإقصاء، وربما يواجهك بنفس المنطق ويفضل التوجه إلى "إسرائيل"، كما أن النظام العلماني يمكن أن يحقق الأمور العامة التي نص عليها القرآن: العدل والحرية والمساواة وحرية الاعتقاد، والشورى التي يراها كثيرون مرادفة للديموقراطية في العصر الحالي، والاحترام المتبادل، إضافة إلى ما ستجنيه الدولة من هذا، على المستوى الاقتصادي وانعكاسه على المستوى الاجتماعي.

قال رئيس الوزراء الماليزي، "مهاتير محمد"، صاحب الفضل الكبير في التقدم الذي وصلت إليه دولته: "إذا أردت الصلاة فسأذهب إلى مكة، وإذا أردت العلم سأذهب إلى اليابان"، وبنفس المنطق تعامل إسلاميو إندونيسيا وتركيا وهما إلى جانب ماليزيا، البلدان التي استفاقت وتحركت خطوات إلى الأمام، ويرى "رجب طيب أردوغان" رئيس تركيا، أن العلمانية "لا تتعارض مع الإسلام"، ومن وجهة نظري، لا أعتقد أن العلمانية تتعارض مع الدين الإسلامي، بناء على ما سبق ذكره في المقال، وبناء على أنها تجعل الدولة على مسافة واحدة بين جميع المعتقدات، كما يمكنها أن تحقق ما دعا إليه القرآن من قيم نبيلة، إضافة إلى أنها ستحفظ أهم شيء وهو الدين، من التحريف الرسمي الذي تمارس عادة الدولة المستبدة، ولنا في التاريخ الإنساني الكثير من الأمثلة.

يجب علينا تكييف العلمانية مع الوطن وخصوصياته، بعبارة أخرى علينا "خوصصة العلمانية"، أي أن يساهم الشعب وتقاليده وأعرافه وثقافته وواقعه فيها، فضلت مصطلح "خوصصة" على "أسلمة العلمانية"، لأن الأول أشمل من الثاني. ومن جانب آخر، إن العلمانية تنزع الخطوط الحمراء عن العلم، لأنه يخدم الإنسانية، يخدم أولادنا وأحفادنا، فالبحث في علم الأحياء وعلم الإنسان على سبيل المثال، لا يمكن أن يحد بتصورات دينية.. نعم الله خلق آدم، ولكن كيف؟ هل مرة واحدة، أم عبر مراحل، وهل كان قبله "أوادم"؟ هناك تساؤلات لم يجب عنها القرآن صراحة، وتركها مفتوحة لنسير في الأرض وننظر كيف بدأ الخلق.

لكن فهم البعض المؤخوذ من آراء أناس عاشوا في عصور سابقة، صحيح لا يمكن لعاقل أن ينكر فضلهم، وما قدموه لزمانهم، لكن لكل وقت رجالاته، إن النظر بعيون الآخرين، يعطينا نماذج تمنع البحث في هذا المجال وغيره، تماما مثل التصنيف الشهير للعلوم والذي ما أزال أتذكر درسا مرت عليه سنوات، من أحد أساتذتي في الجامعة، حيث قال لنا أن العلم عند العلماء المسلمين ينقسم لقسمين: "العلم النافع" وهو كل علم دل على الله، و"العلم الضار"، وهو ما كان موضوعه دنوي. هذا الأمر، من أحد جوانبه، لا يختلف كثيرا عن رفض الكنيسة في القرون الوسطى كتابة الكلام المقدس على الورق، بدعوى أنه لا يمكن كتابة كلام الرب على ورق من صنع الإنسان.

الأنظمة العلمانية في العالم، ليست قالبا واحدا.. وضع في أمريكا ووضع آخر في فرنسا مثلا، لأن كل بلد يضع علمانيته الخاصة، فلا يوجد نموذج قابل للتفعيل في كل مكان وزمان
الأنظمة العلمانية في العالم، ليست قالبا واحدا.. وضع في أمريكا ووضع آخر في فرنسا مثلا، لأن كل بلد يضع علمانيته الخاصة، فلا يوجد نموذج قابل للتفعيل في كل مكان وزمان
 

إنه لمن الغباء رفض أي فكرة، فقط لأنها من تأسيس الحضارة الغربية، فلو تعاملت الأخيرة مع ما أنتجه وابتكره وألفه المسلمون، بنفس المنطق، لما استفادت شيئا، ولكن نحن لا ندري ونظن أننا ندري. لقد رفض الإسلاميون فكرة الديموقراطية في البداية بمبرر أنها تتناقض مع الإسلام بمنح الشعب الحكم، فلا حكم إلا لله، وبعدها تعاقبت الأجيال فتبنوها كشكل دون الفلسفة، ورفضوا الحداثة وبعدها دعوا لأسلمتها، لماذا كل هذا التعقيد؟ أليس هناك منهج واضح في التعامل مع الأمور وتحديد الموقف الصحيح منذ البداية؟ أعتقد أن النظر بعيون الماضي يجعلنا نسير على هذا الطريق متى اصطدمنا بفكرة جديدة في واقعنا.

إن كانت العلمانية خوصصة للدين، فإن المرحلة تقتضي خوصصة العلمانية نفسها، ولكي لا نكون مخطئين، حتى الأنظمة العلمانية في العالم، ليست قالبا واحدا.. وضع في أمريكا ووضع آخر في فرنسا مثلا، لأن كل بلد يضع علمانيته الخاصة، فلا يوجد نموذج قابل للتفعيل في كل مكان وزمان، تماما كما يستحيل تطبيق "الخلافة" السابقة اليوم، يستحيل إنزال النموذج العلماني الفرنسي مثلا في الجزائر، أو الألماني في المغرب، لأن كل بلد له خصوصياته التي تختلف كثيرا عن باقي البلدان. نظام الحكم الذي أعنيه هو نزع اللباس الديني عن الدولة ومؤسساتها بشكل نهائي.

يجب على هذا النظام أن يعطي الحرية "الكاملة" لكل فئة، ومن حق الدعاة أو المبشرين أو غيرهم، أن يمارسوا عملهم، تحت مظلة قبول الآخر، والحوار، والجدال بالتي هي أحسن، ولكن هذا الأمر، الذي هو من الأمور البديهية، يرفضه عامة الإسلاميين، يفتخرون بأنهم يدعون إلى الله في أوروبا وبين المسيحيين، ولكنهم يرفضون أن يبشر أحد النصرانيين إلى دين "عيسى" عليه السلام، فتراهم يقيمون الدنيا على السلطات التي سمحت له بذلك، بذريعة أنه أخل بالنظام العام للمجتمع المسلم، ناسين أو متناسين أن دعوة المسلمين في أوروبا تقام برعاية وحماية وفي بعض الأحيان بتمويل مسيحي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.