شعار قسم مدونات

خامسة رابعة.. وتجدد احتفالية الإعدام

blogs رابعة

قد يكون من الجائز أن تنسى الأمم جزء من تاريخها، ولكن المخيف أن تجبر الأمم بكل الوسائل على نسيان أهم فصول وجودها أو أن تنسى المحن الحقيقية والشدائد البينة التي تعرضت لها. حقا، فعلى استحياء شديد، وبأعلى درجة من درجات التهميش، مرت الذكرى الخامسة لأكبر مذبحة موثقة في تاريخ مصر الحديث. حاولت أن أكتب مجدداً عن تلك الساعات المحملة بالأسى والحزن، ولم أجد ما أكتبه أكثر مما كتبت في السنوات الماضية. نعم كتبت في ذكرى الأربع مرات الماضية ولا يوجد أي مبرر لاستعادة المشهد.

نعم مرت الذكرى الخامسة للمذبحة مرور الكرام بينما الشعب المصري مشغول بزواج الداعية وحجاب الممثلة والمتحرش اللطيف والفوز على النيجر. اليوم أكتب متجاوزا الذكرى ومتأملا مسار الخمس سنوات وماذا حدث لنا خلال هذه السنوات وما هو حالنا اليوم.

أولا: أرصد بوضوح رحيل البركة واقتراب الصندوق

كل من قتلوا أو حرقوا حتى الموت في هذا اليوم، ذهبوا جميعا إلى الجنة. هذا يقيني الكامل. المشكلة أنهم ذهبوا وأخذوا معهم البركة من أرض مصر. مهما فعلت أيها الملهم فلن تستعيد مصر البركة وستنتقل معك من فشل إلى فشل ومن إخفاق إلى إخفاق وأنت لا تدري أن السبب نظرات مئات من ضحاياك وهم في فسيح جنات الله، ودعوات أمهات وزوجات وأبناء وشقيقات. ما بين نظرات الشهداء عليك من أعلى ودعوات المظلومين المتألمين من أسفل، ستستمر مسحوقا منبوذا متوسلا ولكنك لن تجد البركة أبدا ولن يعيدها لك صندوق النقد ولا صندوق تحيا مصر وتذكر دائماً أننا في النهاية نتجه جميعا إلى صندوق واحد: صندوق خشبي بارد.

ثانيا: تنامي ظاهرة الفقد اللانهائي
ماذا حدث لمصر بعد إنجازها الغير مسبوق في التاريخ الحديث بقتل وحرق أكثر من ألف شخص في ثلاث ساعات. لم نفعل شيء على الإطلاق. من فشل إلى فشل أكبر ومن صورة إلى صورة

في مثل هذا اليوم من العام فقد المصريون أكثر من الف منهم فقط في ثلاث ساعات قتلا وحرقا. ومنذ ذلك التاريخ بدأ مسلسل الفقد اللانهائي. فقد الكثير من المصريون ضمائرهم والأهم إنسانيتهم والأهم وعيهم والأهم كرامتهم والأهم مستقبلهم والأهم عقولهم. أصبحنا أمة خالية الدسم بلا ضمير أو كرامة أو عقل أو منطق، وعدنا إلى المربع الأول نفاق وإذعان وخنوع واستمتاع بمطاردة من ضباط أمن الدولة في الشارع والميدان وحتى على شبكات التواصل الاجتماعي.

 

ولكن كان هناك مكاسب تاريخية، كسبنا أن مصر "رجعت لينا مش عارف من مين؟"، كسبنا أن القناة والهرم وأبو الهول "ما اتباعوش". كسبنا أن الشيخ ماجدة أصبحت الأكثر عقلاً وكلامها عن القوارب المطاطية الأكثر منطقا. كسبنا نجوما صناعتهم الكذب والنفاق وإهانة الشعب وتوبيخ الأمة يسمونهم إعلاميين. كسبنا معرفتنا بالوجه الحقيقي للحبيب العادلي: برئ عادل محترم صاحب مبادئ عطوف. كسبنا معرفتنا بحقيقة أمن الدولة في مصر: مؤسسة مدنية غير هادفة للربح معظمها نشطاء حقوقيين. كسبنا قضاء شامخ. كسبنا أننا أعدنا الجزيرتين لأننا نعشق رد الأمانات. كسبنا التيقن أن الطب المصري هو الأعظم في العالم لأن الميت إكلينيكيا يتجول في السواحل والشواطئ. والأهم كسبنا أننا تيقنا من أن ثورة ٢٥ يناير هي مؤامرة بامتياز، بل وأسميناها النكسة أو الوكسة.

ثالثا: حقبة الصورة هي الحل

ماذا حدث لمصر بعد إنجازها الغير مسبوق في التاريخ الحديث بقتل وحرق أكثر من ألف شخص في ثلاث ساعات. لم نفعل شيء على الإطلاق. من فشل إلى فشل أكبر ومن صورة إلى صورة. نعم سيطرت الصورة على حياتنا. صورة وهو يرتدي بدلة يتدلى منها نياشين ذهبية وملونة ويفتتح قناة ثم تموت القناة. صورة وهو واقف امام ماكيت بلاستيك يضيء لعاصمة جديدة ثم يهرب الجميع، ثم تطفئ الأنوار وتموت العاصمة. صورة وهو يلعب في سنابل القمح إنتاج مليون ونصف فدان ثم نتقاتل على الخبز ويموت المليون ونصف فدان. صوره وهو في شرفة عربية نقل ومعه شيوخ وجنرال ثم تموت أكبر قاعدة. صورة وهو يتأمل حقول الغاز والنفط ومناجم الذهب ثم يموت كل شيء ونستورد غاز لإسرائيل. صورة وهو معه ميكرفون وتتساقط دموعه ثم يبتسم ثم يرتعش ثم يضحك ثم يستمع للتصفيق ثم يموت الميكرفون. كل شيء يموت في مصر.

لا زلت أعتقد أن ثورة ٢٥ يناير هي  الشيء الوحيد الذي يمكن لنا نحن المصريون أن نفخر به بحق، ولكننا أضعنا هذا الفخر بأنفسنا وأسميناها مؤامرة
لا زلت أعتقد أن ثورة ٢٥ يناير هي  الشيء الوحيد الذي يمكن لنا نحن المصريون أن نفخر به بحق، ولكننا أضعنا هذا الفخر بأنفسنا وأسميناها مؤامرة
 
رابعا: حكمة العقاب البطيء

مهما كانت درجات إلحادك فان العقاب البطيء والفشل المتتالي، وموت الأشياء والعواصم والقواعد والتفريعات والفدادين ونضوب الغاز لا يعني إلا ان هناك حكمة إلهية يستنجد بها كل يوم أهالي مقتولين ومفقودين ومسجونين. حقا، كلما جاءت ذكرى مذبحة رابعة وتأملت المشهد في بلدي الحبيب مصر، اتفهم بعمق معنى الحكمة الإلهية التي تتجاوز كل شيء.

أنا فقط أريد أن أعيدكم إلى مشهد فارق (ليس من ميادين رابعة ولا النهضة)، ولكن مشهد عبور المتظاهرين لكوبري قصر النيل ووصولهم إلى ميدان التحرير في 28 يناير 2011. في هذا اليوم الشرطة فعلت كل شيء: غاز، قتل، رصاص، مدافع مياه، ضرب مبرح، دهس بالسيارات المصفحة… ثم ماذا. عبر الثوار الكوبري وهربت الشرطة.. هناك فارق مذهل بين شجاعة إنسان يسعى للحرية وجبن وخوف ممثل لنظام فاسد يهرب حتى ومعه السلاح.

 

ثورة ٢٥ يناير التي ما زلت أعتقد أنها الشيء الوحيد الذي يمكن لنا المصريين أن نفخر به بحق، ولكننا أضعنا هذا الفخر بأنفسنا وأسميناها مؤامرة.. أكبر دليل على نجاح ثورة ٢٥ يناير هي البكاء الجماعي الذي انتبانا ونحن نري المصريين يفعلون ما اعتقدنا أنه مستحيل. أعتذر عن الفقرة الأخيرة فقد تبين أن كل هؤلاء كانوا قادمين من إيران وغزة والعراق وسوريا كما أن كل من ظهر من قوات كانت من حماس ترتدي زي الشرطة المصرية تبعا لأقوال الشيخة ماجدة التي أصبحت مرجعية إعلامية وقانونية. والأن لا نكتفي بكل الدم والحرق ولكننا نحتفل احتفالية مجنونة نعيد بها روائح الموت والدم حين يصدر حكما على العشرات بالموت شنقا في يوم واحد عقابا لهم على مجرد الوقوف في ميدان. طوبي لمن أسمى ثورة يناير الوكسة أو النكسة ومرت عليه ذكرى المذابح مرور الكرام. نحن أكبر مؤامرة على أنفسنا وعلى كل شيء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.