كانت أغلب الفترة التي قضيناها في أفغانستان خلال شهر رمضان وهو ما سمح لنا باكتشاف العادات الرمضانية لأهل البلد. ولا يخفى على أحد كرم الأفغان وتنوع موائدهم رغم بساطتها. وقد أتيح لي الإفطار في عدد من بيوت الأصدقاء ومما لاحظته أنهم يعمدون إلى فرش البيت كاملا حيث يتعين على الزائر خلع حذائه أمام باب المنزل ويفرشون على الأرض مائدتهم الرمضانية الغنية بالخضروات والأكل التقليدي.

 

أول ما يفطر عليه الأفغان هو الشاي الأخضر ويمزجون به القرفة أحيانا مما يعطيه مذاقا مميزا ولا يغيب عن المائدة مشروب الفرموزا وهو عصير الليمون المحلى بقصب السكر إلى جانب مشروبات الفواكه الطازجة أحيانا والروب والخبز الأفغاني الشهي والسلطات والشوربة. كما تحضر السمبوسة وأكلة البولاني الشهيرة وهي عجينة محشوة بالسبانخ والبطاطا وحتى اللحم وشبهتها بأكلة "البوراك" التي تحضر على موائد الجزائريين في رمضان.

 

وقد حضرت إفطارا رمضانيا بأحد مساجد وسط مدينة كابل حيث ينتظم الفقراء وعابرو السبيل صفا واحدا قبيل المغرب لتقاسم وجبة الإفطار التي جاد بها المحسنون. وقبيل الأذان يردد الحاضرون دعاء جماعيا لاستغلال ساعة الاستجابة ثم يفطرون على حبة سمبوسة وكأس ماء ويقومون لصلاة المغرب ثم يعودون ليستأنفوا الإفطار بالرز الأفغاني الشهي جدا حيث يتم تحضيره بزيت السمسم ويضاف إليه الزبيب وقطع رقيقة من الجزر مع قطع لحم طيبة تذوب كالصمغ قبل المضغ.

 

خلال وجودنا في كابل سمعنا عن وجود يهودي وحيد في المدينة يمكن اعتباره آخر يهودي في أفغانستان.. يدعى زابلون سيمنتوف وكنت أسعى لتصوير تقرير معه لتسليط الضوء على حياته واستقصاء أسباب تفضيله البقاء وحيدا في أفغانستان لأن زوجته وابنتيه هاجرتا إلى إسرائيل وتوفي والده بكابل وأمه في إسرائيل ويشتغل حاليا في تجارة الأحجار الكريمة ويتولى رعاية الكنيس اليهودي الوحيد في كابل رغم أنه ينحدر من مدينة هيرات غربي البلاد التي كان بها عدد من اليهود ويوجد لغاية اليوم مقبرة لهم بالمدينة.

 

استقبلنا الرجل في غرفة متواضعة في بناية بها باحة وأثاث متناثر. قال إن آخر زيارة له لإسرائيل تعود إلى عام 1998 وإنه يفضل البقاء في أفغانستان. من خلال حديثي معه تبين لي أنه صهيوني الهوى أكثر من كونه أفغانيا. كان يبرر لجرائم الاحتلال الإسرائيلي ويذر الرماد عن العيون بطريقة ذكرتني بطريقة أفيخاي أدرعي الناطق باسم الجيش الإسرائيلي. لم يجب عن تساؤلنا بخصوص تهجير الفلسطينيين من جهة وحث يهود العالم على الالتحاق بتلك الأراضي المغتصبة من جهة أخرى وكان الحديث معه ذا شجون وانتهى بطلبه منا إحضار زجاجة ويسكي يوم تصوير التقرير معه.. وفي النهاية انتهي لقاء جس النبض معه ولم نعد الاتصال به لأن ما كان يهمني في حياته هو الجانب الإنساني منه إلا أنني صدمت بمواقفه غير الإنسانية.

 

خلال الأيام الأخيرة من وجودنا في أفغانستان وقبيل عيد الفطر بأيام بادر الرئيس الأفغاني إلى إعلان وقف لإطلاق النار من جانب واحد مع حركة طالبان لغاية اليوم الخامس من أيام العيد. وقد لقيت المبادرة ترحيبا كبيرا من قبل أطراف عدة من بينها الأمم المتحدة وقيادة القوات الأمريكية والأجنبية العاملة في البلاد ولأول مرة كان رد الحركة إيجابيا مما فتح الباب لأول هدنة بين الطرفين منذ إسقاط نظام طالبان عام 2001.

 

رغم أن حركة طالبان استثنت القوات الأجنبية من هجماتها إلا أن هذه الهدنة القصيرة كانت فرصة لإرساء بعض من الثقة بين الأطراف وقد عبرت لجنة المصالحة الأفغانية عن أملها في أن تتطور هذه الهدنة إلى حوار ومصالحة ووقف دائم لإطلاق النار.كما تشكل هذه الأيام النادرة في زمن الحرب فرصة ليلتقط الأفغان أنفاسهم وترتسم الفرحة في وجوههم ولو لبضعة أيام.. وقد صادف اليوم الأخير لمهمتنا في أفغانستان وصول مسيرة من الشباب إلى مشارف كابل بعدما قطعوا ثمانمائة كيلومتر سيرا على الأقدام من هلمند لحشد الدعم للمصالحة.

 

هؤلاء الشباب اكتووا بنار الفتنة والحرب ويعود قرار سير هم كل هذه المسافة رغم خطورة الطريق ووعورتها وحر الصيف إلى يوم 21 مارس الماضي حيث تحولت إحدى الحفلات إلى مأتم نتيجة تفجير انتحاري استهدفها وقتل فيه العشرات. وقد اعتصم ذوو الضحايا في خيم مطالبين بالمصالحة ثم قرروا السير إلى كابل. وفي مدخل كل مدينة يستقبلهم السكان ويلتحق بهم آخرون إلى أن وصلوا إلى العاصمة كابل. يمكن اعتبارها أول مبادرة تلقائية شعبية للمطالبة بتحقيق المصالحة بعيدا عن السياسيين والمنظمات الدولية.

 

يقول أحد المثقفين الأفغان حينما سألته عن وضع البلد وكيف يرى الحل لخروجه من عنق الزجاجة إن الأمر مرهون بالاستثمار في التعليم والقضاء على أمراء الحرب المتوغلين في مفاصل الدولة حيث أن الكثير من البرلمانيين يمثلون مصالح دول أجنبية إلى جانب ضرورة تحقيق المصالحة مع طالبان رغم رفض تيارات داخلها الأمر بشدة وإصرارها على رحيل القوات الأجنبية أولا من البلاد. وإلى جانب ذلك أيضا تحقيق مطلب القضاء على الفساد في القوات الأمنية والجيش.

 

هذه المطالب أو الأماني تبقى صعبة التحقيق في الوقت الحالي وتشبه إلى حد بعيد حكاية الفئران الذين اجتمعوا لإيجاد حل للتنبيه من مخاطر القط المفترس الشرس وارتاحوا لفكرة تعليق جرس على عنقه ينذرهم بوجوده إلا أن المشكلة الكبرى لديهم بقيت فيمن يمكنه تعليق الجرس في عنق القط.. فلا توجد في البلاد قوة سياسية جادة في الوقت الحالي تتحمل أعباء النهوض بالبلاد وتحقيق الإصلاحات الصعبة وقد تعاقبت على أفغانستان حكومات ضعيفة مسنودة من الخارج تتهمها قوى داخلية أخرى بالعمالة وتحاربها بالسلاح فضلا عن أن الوضع الحالي تستفيد منه عدة أطراف نافذة يشكل الاستقرار الأمني والسياسي تهديدا مباشرا لمصالحها.

 

قبيل عيد الفطر وخلال بداية أيام الهدنة النادرة غادرنا مدينة كابل التي اغتسلت من أدرانها تحت زخات المطر وكأنها تتأهب لاستقبال عيد هادئ على غير عادتها.. كانت وجهتنا إلى الدوحة لكننا فضلنا هذه المرة العبور عبر العاصمة الهندية بحكم قربها.. ترتفع الطائرة في الأفق مودعة جبال أفغانستان الشاهقة وتدفع المرء للتأمل من جديد واسترجاع شريط هذه الرحلة التي تبقى محفورة في الذاكرة عن أرض أريد لها أن تكون ساحة لحروب الآخرين.