شعار قسم مدونات

أنا وأخي في كلبش واحد!.. حكايات السجن (2)

blogs أصفاد

"تبدو لي المشاهد من بعيد عندما أتذكرها جزءًا من فيلم سينمائي، يجمعني وأخي نفس قسم الشرطة -وإن لم نكن معًا في نفس مكان الاحتجاز-، تجمعنا سيارة ترحيلات واحدة، أنا وأخي نيسر معًا يربطنا كلبش واحد! نخرج من المحكمة متجهين ناحية سيارة الترحيلات، نسير بحماسة لا أعرف من أين أتت، نحكي بسرعة ما نريد قوله قبل أن ينتهي الوقت ويأخذنا الشرطي كلٌ إلى مكان احتجازه، التفتُ فوجدت أمي تنظر إلينا من بعيد، أشرنا لها أننا بخير لتطمئن، لكن نظرتها ليدينا يربطهما الكلبش معًا جعلتني أدرك تمامًا أن هذا المشهد لن يمر عليها مرور الكرام. أخبرتني هي فيما بعد أن هذا المشهد تحديدًا جعلها تفقد السيطرة، قالت أنها كانت تُحَدِث من معها ولا تسمعه، وأصبح الصخب سكونًا لدقائق!

 

خرجنا إلى المحكمة وكنتُ لا أملك مرآة لأرى شكلي وأصلح حجابي وهندامي المبعثر وانتابني قليل من الارتباك بسبب هذا، وكثير منه لأسباب لا تخفى، عندما وجدت محمد في صالة النوبتجيه التي يجمعنا فيها الضابط قبل أن يأخذنا لسيارة الترحيلات متجهين إلى المحكمة رأيت وجهي الجميل في عينه الجميلة، وفي ضحكة السرور برؤيتي رغم قسوة الظرف!

 

عندما التقينا للمرة الأولى بعد القبض علينا مد مُحمد يده ومددت يدي تصافحنا بحرارة وضحكنا وأخذنا من سخط الشرطي ما أخذنا بسبب هذا، ثم بدأت أنا في البكاء، وأصبح هذا ديدننا عند كل لقاء، عندما نلتقي أضحك وبعدها بقليل أبدأ في البكاء ومحمد يهدئ من روعي ويؤكد لي أن كل هذا سينتهي اصبري.

 

نحكي أنا و أخي الأسرار ونناقش الأفكار العميقة، نسهر ليلًا نلتقط أُغنيات سبيستون من بعضنا ونتذكر أيامًا خوالي، نكبر معا نقترب ونبتعد، واليوم نخرج معا من نقرة فنقع في ضحضيره

في البداية أضحك لأن رؤية وجة محمد الجميل تسعدني، أخي الصغير الكبير، بعض روحي فيه، أحب لونه الخمري وملامحه الهادئة، تزيده ضحكته العفوية براءةً وخِفه.. وأبكي لأن طعم الظلم مُرّ، ولأن هذا كثير، أكثر من المحتمل والمتوقع! أتذكرنا ونحن صغار يركب أحدنا أرجوحة صغيرة ثبتها أبي في شرفة المنزل ويدفعه الآخر نتبادل الأدوار، نتركها فجأة ونندفع ناحية الزحليقة كل واحد يريد أن يكون الأول، أتذكر الدراجة فأتركه وأذهب إليها قبله، فيترك ما كان يريده ويبكي لأنه يريدها، نشترك مرة ونتشاكس مرتين.

 

في الليل نصنع خيمة ونضع الوسادات على الأرض، نحمل الألعاب إلى الخيمة ونجهز بيتنا الجديد تحتها، أدوات المطبخ، والسيارات، والعرائس كأنها أطفال هذا ابني وهذا ابنك، ننام في نهاية الأمر، وعندما تستيقظ أمي في الصباح وتجد غرفتنا في أبهى صورة تعرف أن مهمة ايقاظنا للمدرسة تبدو مستحيلة، تترك محمد نائم، ويحملني أبي إلى الحمام حملًا فاضطر إلى ترك التظاهر بالنوم وأسلم للأمر الواقع، لم أكن أتفهم أن ينام محمد ويترك مدرسته الجميلة، فيها شاشة كبيرة تعرض أفلام الكارتون وألعاب بلا حصر ولا عد، وعندما أذهب مع أبي لإحضاره وأجده نائما أو يشعر بالملل أشعر بالحسرة وأقول ماذا لو رأيت مدرستي ليس فيها غير الحصص والدروس؟!

 

كان محمد ومازال أذكى وأنبه يفوقني في الدراسة، ويتعلم أسرع مني رغم فرق السن بيننا وعندما تساعدنا أمي في حفظ القرآن أو الأذكار يحفظ سريعا وبإتقان. عشنا طفولة جميلة وهانئة يدللنا أبي وتحنو علينا أمي، ولم يكن ما حدث لنا فيما بعد ضمن خيالاتنا بأي حال!

 

نتمشى في شارع بغير وجهة، نمسك بيد بعضنا، نتكلم ونحكي بحماسةِ وشغفِ حبيبين جديدين، ترمقنا نظرات المارة، نلاحظهم فنضحك، ندخل إلى مطعم لتناول الطعام فنختار الركن البعيد الهادي نحكي الأسرار ونناقش الأفكار العميقة، نسهر ليلًا نلتقط أُغنيات سبيستون من بعضنا ونتذكر أيامًا خوالي، نكبر معا نقترب ونبتعد، واليوم نخرج معا من نقرة فنقع في ضحضيره.

 undefined

في يوم ما أعطاني الشرطي غطاءً وبعض الطعام قال أرسلها لكي أخوكي، بكيت كثيرًا ولم يتحمل قلبي أن أحبس وأخي ظلمًا في مكان واحد وتفصلنا الجدران عن بعضنا وعن العالم، طلبت من الشرطي أن يسمح لي برؤيته رفض ورمقني بنظرةِ هل جُننتي! مَن المجنون؟، أتساءل عندما تحملنا سيارة الترحيلات في حراسة مشددة، وتسير أمامنا وخلفنا سيارات تصدر أصوات تنبيه، وتحمل كثيرًا من العساكر مدججين بالسلاح نبدو كمن يشكل خطر رهيبًا! كيف وكل ما في الأمر ولدٌ وفتاه، صغيرين بعد لتهديد دولة تتظاهر بالقوة! هل هو حرص في غير محله، أم فراغ، أم ظلم بواح سيفتك بالظالم قبل المظلوم؟!

 

عندما التقينا في سيارة الترحيلات أراد محمد أن يخفف عني فغنى لي المقطع الأخير من أغنية لأميمة خليل يحبها ويحفظها:

 

"قلتلو لا تخاف أطلع شوف الشمس اللي راح تطلع، واطلع ع الغابة وشاف أمواج الحرية بتلمع.. شاف جوانح عم بتزقزق من خلف أبواب العليه، شاف الغابة عم بتحلق على جوانح الحرية"

 

يغنيها محمد بحماسة ويُحَرف لحنها بطريقته الجميلة والمحببة لي، كان صوته وكلامته تلك نسمة باردة في يوم حار، نعم يا حبيبي ستطلع الشمس تنير بلادنا يومًا ما، وتخرج آلاف الطيور المحبوسة تملأ الدنيا زقزقةُ وجمالًا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.