شعار قسم مدونات

سيأتيك ذلك اليوم..

blogs - يأس

هُمس في أذني بصوت سرمديّ الوجود، صوت أزليّ المبعث، أبديّ الصّدى، همس بكلمات مرعبة. همس قائلا: هل إختبرت الوقوف على عتبة اللاشيء؟ أتدرك ما هو اللاشيء؟ اللاشيء هو أن تنحت على ملامح وجهك ابتسامة جوفاء قاحلة فقط لمحاكاة من هم حولك، اللاشيء هو الخروج عمّا يأطره الزمان والمكان، فقط الليل ما تأنس به روحك، ليس عشقاً في الليل، بل رغبة في ظلمته المتجانسة مع عتمة قلبك. اللاشيء هو تجربة لشعور واحد، شعور ألا تشعر بشيء، أن يختفي كل شيء، وتفقد كل شيء. هو السباحة في بحر لا متناهي من الفراغ، في كل لحظة تمضي تصطدم فيه بأمواج من العدم وتمزق أشرعة سفينتك رياح اللّامبالاة، فتغرق في أعماق النسيان، في أعماق اللاشيء.

لكن قبل أن تتذوق طعم اللاشيء، لا بدّ أن تحيا أشهراً على شاكلة يوم، يوم واحد يتكرر لأشهر طويلة، وسيأتيك ذلك اليوم. اليوم الذي تكون فيه أسوء كوابيسك هي لحظة الاستيقاظ من النوم، تفتح عينيك وتظل مرمياً على الفراش تراقب صراعاً يجول في أعماقك، بين قلبك الذي يمنعك من الخروج لهذا العالم المزيف وعقل يدفعك للنهوض، بحجة أن الحياة لا تنتظر من ينام. لكنك في النهاية تخرج بعد حرب طاحنة بين قلبك وعقلك، بين ظاهرك وباطنك، بين نفسك ونفسك، المقنّعة والحقيقية. تخرج دون الحاجة للأكل، فهذا الجسم الهزيل لم يعد يقوى حتى على الأكل. تخرج فتشعر بالاختناق، لأنك عشت هذا اليوم بالأمس وقبله وقبله.

ذلك اليوم الذي تنام فيه وترجو الغوص في ظلامك الحالك إلى ما لا نهاية، لأنه غداً ينتظرك يوم آخر مزيف، ينتظرك نفس اليوم

سترى العالم بالتصوير البطيء، ستنطلق من نفس النقطة لتعود لنفس النقطة في دوّامة من الفراغ واليأس. سيقع بصرك على وجوه مختلفة، وجوه أنِستَ صحبتها وأخرى لطالما تجنّبت مرافقتها، ستتباعد خطواتك بين أماكن نسجت عبر الزمن خلايا ذاكرتك، سيتلقّى أنفك شتّى الروائح التي ألفها جسدك. لكن في ذلك اليوم سترى كل الوجوه متشابهة وستتوه خطواتك عن درب الرجوع إلى نسيج ذاكرتك، وسيمتنع أنفك عن استنشاق ما لطالما داعب أنفاسك. ستجلس أين اعتدت الجلوس فترتدي قناعاً يرسم على محياك ابتسامة مصطنعة، ستُجبر على مشاركتهم دردشتهم حتى لا يحاكموك بتهم التكبر والغرور، حتى لا يرمقك أحد بتلك النظرة المهينة، نظرة الرّيبة والاستغراب.

في ذلك اليوم يا رفيقي، سيتقاطع دربك مع أحد العاثرين الملعونين بخيبة الحياة، وسيجد فيك ميناءاً رحباً وآمنا يهتدي إليه من هول الأعاصير التي عصفت بقلبه، ستكون له مرهماً لجروحه وآلامه، وقد تضيء كلماتك بوصلة الأمل فيما بقي من حطام سفينته المنكوبة، دون أن يدري أنك مجرد ميناء مهجور، وسيرحل دون أن يدرك أنك قلت ما قلت طمعاً في بقائه، راسياً على رصيفك، آملاً منه إنقاذك من وحشة تنهش فؤادك. سيرحل هو بأمل جديد وسيلقي بآخر آمالك في عرض البحر مع نفايات سفينته المنكوبة. أما أنت ستعود بخطوتك المثقلة إلى نقطة البداية، إلى تلك الغرفة المظلمة، لتستلقي كما نهضت أول النهار خال الوفاض، كميناء مهجور.

حينها ستهاتفك تلك الفتاة، التي تظن أن الدنيا اجتمعت فيها، بألمها وأملها، بحزنها وفرحها. تلك الفتاة التي لو خيروك بين العالم وبينها لاخترتها هي. عندما تجيب، ترتفع نبضات قلبك، يتغير مزاجك لبرهة، تنتهي المكالمة فتشعر أنك هاتفت شخص غريب لا تعرفه. شخص لا يجمعك به شيء، حتى تلك الفتاة سترحل يا صديقي، وستتركها ترحل، سترحل لأنك أردت لها الرحيل، فهي زهرة فردوسيه، وأنت أشبه بمستنقع في درك من الجحيم. ستمسك سيجارتك العشرين وتتأمل احتراقها بين شفتيك، نعم سيأتيك ذلك اليوم الذي تنام فيه فور انتهاء سيجارتك العشرين. ذلك اليوم الذي تنام فيه وترجو الغوص في ظلامك الحالك إلى ما لا نهاية، لأنه غداً ينتظرك يوم آخر مزيف، ينتظرك نفس اليوم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.