شعار قسم مدونات

غدًا نلقى الأحبة.. محمدًا وحزبه

blogs-المسجد النبوي

أن تتأثر بقصة بلال بن رباح شيء، ولكن أن تتغير حياتك كلها بسببها شيء آخر تمامًا، وأن يحدث ذلك في مجتمع عربي مسلم شيء، وأن يحدث في نيويورك شيءٌ آخر فبرغم غرابته فهذا ما حدث، قصة "بلال بن رباح" تغير حياة أشخاص يعيشون في نيويورك، حياة بعيدة تماماً عن أي تغير يأتي من قصة رجل مات قبل ألف عام. هكذا بدأت قصة كتاب "شيفرة بلال" ظللت أفكر من أين سوف أبدأ عن شخصيّة تاريخية أثرت في الكثيرين، تبحث في مكمنها فتكتشف كل ما هو جديد، فالجميل دائما في صحابة رسول الله أن كلاًّ منهم بذاته قدوة ومثلاً يُقتدى بيه يؤثر فيك وتتأثر به، فليس من الضروري أن تبنى قصوراً وتنشد الآلاف من المعلقات كي يلحقك الإعجاب بهم، وليس من الضروري أن تكون ذو طبع مختلف كي أجعلك مثالاً يُقتدى به، فليس في إسلامنا مجال لتفاخر وتفضيل البعض على البعض، إلا بالقلب السليم والروح الصالحة الكامنة، فيكفيك أن تصلح علاقتك مع الله وتنشد بكلماته لتحظى أعلى المراتب عندما يتطابق القول مع الفعل.

لكنه رغم أن الرّاوية لم تسرد الكثير عن حياة بلال الحبشي، لكن ربّما هذا ما دفعني للحديث عنه خاصة من بعد إسلامه فالحياة قبل الإسلام كالغمّ، كونك لا تستطيع الارتباط بدين بعينة، كونك لا تخلص في عملك لسببٍ ما، كأنك مجهول الهوية فلا يوجد شيء حقيقي تحيا من أجله ولأجله، ولقد استطاع الكاتب أن يعكس ذلك على شخصية أمجد الحلواني في كونه يصارع ذاته على عدم الاعتراف بوجود الله، وانعكس أثره على التطور الملحوظ في شخصيته بعد معرفة أهمية الله في حياتنا. يقول عبد الله بن مسعود: "كان أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد؛ فأما رسول الله فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون وأُلبسوا ادراع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم أحد إلا وأتاهم على ما أرادوا إلاّ بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: "أحد، أحد"

! ارتجّت المدينة لذلك، ولمّا قال" أشهد أن لا آلة إلا الله" زادت رجّتها فلمّا قال أشهد أن محمدًا رسول الله خرج النساء من خدورهنّ، فما رؤي يومٌ أكثر باكياً وباكية من ذلك اليوم.

فعندما تذكرت "أحداً أحد" ظللت أفكر ما هي الشيفرة الحقيقة التي يتحدث عنها الكاتب والتي استطاع بها أن يحسم بكونها. هي الشيفرة الجينية التي تسبب السرطان، فلكل سرطان شيفرة جينية، أو لربما الشيفرة هي في كوننا نقاوم السّرطان ونحن نعلم أنها معركة خاسرة، أو قد تتعلق الشيفرة ببلال الحبشي نفسه لقوله "أحد، أحد" فهي شيفرة استطاع أن يرسلها إلى عقله فتجعله يستمر في الكفاح من أجل دعوته، كما قد تكون شيفرة في معركته مع أميّة ذاته. كلها أسباب متعددة ومختلفة لكن في اعتقادي أن الشيفرة الحقيقة هي الإيمان بالقدرة على التحرر من العبودية لأشياء سواء كان مرض أو أشخاص، ثمة إيمانٌ داخليّ يجعلنا نتغاضى عن كل هذا ونتعايش معه بكل قوة، فظهور بلال الحبشي في حياة بلال الطفل جعله يستقبل المرض بكل قوة ويتعايش معه، جعل كلمة السر لمدونته هي "أحد، أحد"، لكي يمر الأمر كله بسلام، لذا لا يوجد مجال للصّدفة مهما اختلفنا في ذلك، فكلها اقدار تكتب ونلتقي بيها لنكمل حياتنا. لكن الأمر الذي استوقفني، وأثار الفوضى بداخلي، شعور بلال اتجاه أميّة بن خلاف، أمية هو من عذب بلال بن رباح وبدأ يؤذيه حتى أعتقه أبوبكر الصدّيق رضي الله عنه. إنّ سِمةُ أمية، هي بداخل كلاً منّا غضب نختزله تجاه كل من أوجعنا وكسر ما بداخلنا وقال فينا ما ليس فينا، غريب هو ذلك الغضب الذي ينهش خلايا عقلك لكي تثأر من أي شيء يقتلك، وعلى الرغم من تعدد صور أميّة وأشكاله، كأن يكون فقراً، أو ربّما مرضاً، صديقاً سيّئاً، أو حتّى قهر الذات.

ظللت أفكر في أميّة، وكيف احتل قلب بلال كل ذاك الغضب تجاهه، ولِم لَم يحوّله خُلق الإسلام إلى تسامح ورحمة! ظلّ هذا الشّعور يسيطر عليه إلى أن جاءت المعركة، أين راح يبحث عنه في السّاحة، ينتظر كأسدٍ ينتظر فريسته. فعندما نادى الناس "أحد، أحد"، وهتف الجميع بعد مقتل أمية حينها فقط، شعر بلال بالإزالة الحقيقة لسخرة التي كانت على صدره. هكذا هي الكثير من الأمور في حياتنا نشعر بالانتصار الحقيقي عندما نتخلص منها، ونثأر لها في ساحة الحياة، التي تشبه المعركة نتحملها مستعين بالله كقول بلال "أحد، أحد" مخلصين لما تبقّى من عزيمتنا حتّى يحين الوقت المناسب لمقتل أميّة كما فعل بلال. ظن بلال أنه بتخلصه من الجاهلية كونه عبداً انتهى تماماً، لكن الحياة أحياناً تعطينا صفعات في منتصف الطريق لا أعلم ما الفائدة الحقيقة من هذه الصفعة، لربما تكون مجرد درس أو ربما تقوية فؤاد، فأصابه اليأس لما قال له أبا ذرَ: "يا ابن السوداء"، تلقّاها بلال بصعوبة كبيرة، فأحسّ وكأن الكون كله توقف تماماً عن الحديث. لم ينكر بلال أبداً أن الأمر صعب كونك تتخلص من كل شيء سابق كنت تؤمن به، كونك تعطي فرصة لذاتك بأن تتعايش مع نظام جديد. كانت هذه الليلة شديدة السواد بالنسبة لبلال حتى أنه عندما غفا حلم بحمامة سوداء، لشدة تأثره بالعبارة.

عندما علم رسول الله بهذا الأمر قال لأبي ذرَ: "إنك امرؤ فيك جاهلية"، فأحياناً نتغير تماماً ونعطي فرصة لأنفسنا بأن نحسن لها، لكن سرعان ما نخطئ في بعض الأوقات، لذا لا مجال لجلد الذات يا صديقي لابد أن تؤمن بأن الجميع يخطأ لكن أفضلنا من يسرع بالمغفرة، لم أعلم ما الشعور الحقيقي لبلال في هذه الليلة لكني على يقين بأنها كانت من أشد الليالي صعوبة على قلبه، وعلى نقيضها عندما علم من رسول الله بأنه من سيؤذن غداً يقول لا أستطيع النوم في هذه الليلة سيكون أول فجرٍ أنادي لصلاته خاصة بعد أن علم أن رسول الله قال عن صوته أنه أندى صوت.

الآذان الأخير
بعدما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-، كان النداء مؤذياً له، مليئًا بالمشاعر والحنين، وفي أوّل نداء للصلاة بعد أن دفن، وقف ينادي للصلاة، فكانت كالساهم، لأنّه لن يستطيع سماع ندائه هذا مرة أخرى، وعندما وصل إلى ذكر اسمه محمداً رسول الله أجهش بالبكاء كما لم يفعل قطّ طيلة حياته، حاول ذلك أكثر من مرة لكنّه لم يستطع. يقول حينها عرفت المعنى الحقيقي لليتم وأنا اقف لأنادي للصلاة بعده، لم أعرف أبي حقًّا، وماتت أمي منذ زمن بعيد، لكن اليوم فقط، أحسست بمعنى أنّي صرت يتيماً، كان أبو بكر مُحقّاً حين صرخ فينا وهو يرانا منهارين: "أيها الناس، من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت"، محمد مات وانتهي الأمر، الله لا يموت هنا لا ينتهي الأمر هنا الاستمرارية. لم يطق بلال البقاء في المدينة بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكان إذا أراد أن يؤذن وجاء إلى: "أشهد أن محمدًا رسول الله" تخنقه عَبْرته، فيبكي، فمضى إلى الشام وذهب مع المجاهدين، وبعد سنين رأى بلال رضي الله عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-في منامه وهو يقول: "ما هذه الجفوة يا بلال؟ ما آن لك أن تزورنا؟" فانتبه حزيناً، فركب إلى المدينة، فأتى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وجعل يبكي عنده ويتمرّغ عليه، فأقبل الحسن والحسين فجعل يقبلهما ويضمهما فقالا له: نشتهي أن تؤذن في السحر! ارتجّت المدينة لذلك، ولمّا قال" أشهد أن لا آلة إلا الله" زادت رجّتها فلمّا قال أشهد أن محمدًا رسول الله خرج النساء من خدورهنّ، فما رؤي يومٌ أكثر باكياً وباكية من ذلك اليوم. توفي بلال في دمشق في السنة العشرين لهجرة المؤمنين إلى المدينة وكان ذلك بسبب الطاعون الذي انتشر وقتها في بلاد الشام، لما حضرته الوفاة وبكت زوجته وقالت: "وا حزناه"، قال لها: "بل وا طرباه"، وانتهت سيرته بقوله: "غدا نلقى الأحبة، محمدًا وحزبه".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.