شعار قسم مدونات

عذراوات رغم أنف القبيلة!

blogs امرأة

أمي مثال للصبر والحلم، لعل حر الحياة جعلها تنضج قبل الأوان فتتعجل الصمت قبل الكلام، فتستوي الحكمة في أفعالها والرزانة في حسن تعاملها أيا كانت المواقف. نحن في الغالب نسخة مشابهة لأمهاتنا في بعض الطباع، لكن تجاربنا في الحياة قليلة، حصرت مصاعبها في الابتعاد عن الأهل، في معاشرة من اعتبرناهم أصدقاء فخذلونا، فاكتشفنا فيهم قلة حيلتنا، وعجزنا عن الحسم في اتخاذ قرار أقرب الى الموت منه إلى الحياة، ألفنا الحماية العاطفية، والسند القوي من قبل آباء وأمهات وفروا لنا كل شيء حتى تخيلنا لوهلة أن أمثالا وحكما مستقاة من التجربة المريرة محض خيال، ولا وجود لمستحيل فيها.

لطالما كان كل شيء موجودا، ولدت في كنف عائلة محافظة لكن أقصى سعادتها توفير احتياجات أبنائها، لم أعتد أن ينهرني أحدهم أو يقلل من قيمتي، كانت دراستي أولى أولوياتي، كان علي أن أحقق ذاتي لذاتي، لأنني أؤمن أن رسالتي في الحياة أن أحقق هدفا أسمى من الأكل والشرب والزواج وتحمل طباع الزوج مهما كان، فالمرأة -كي تستمر في هكذا مشروع- عليها أن تضحي بكل ما تملك، وتختلق الأسباب كي تنجح مهما كلفها الأمر، أن تسرع بالإنجاب كي لا تطلق، وتتحمل مسؤولية الأبناء في المنزل وخارجه، عليها أن تسابق الزمن كي تثبت وجودها كعذراء عفيفة أولا، ثم كزوجة طيعة ثانيا، كامرأة عاملة وكأم تزاوج بين القدرة الجسدية والنفسية والعاطفية على تحمل مشقة التعب ولا تنبس ببنت شفة.

عليها وليس لها، أليس من حقها أن تحظى برقي في التعامل يضاهي معاملة أبيها لها؟ إذ لا يعقل أن يفني رجل عمره في تربية وتعليم وإيصال ابنته إلى مراتب الشرف والعلم، ليأتي آخر وثقت به وتم استئمانه على سلامتها، أمنها وأمانها ويجهز على مشروع إنسان تجسد فيها، فيحطمه ويتفنن في تهديم ما كان في وقت من الأوقات هم فقير أو معوز، أم عاملة حرة بمكابدتها في سبيل رؤية ابنتها طبيبة أو مهندسة، مدرسة أو محامية، لا يعقل أن تقدم على طبق من ذهب لمستهتر أو جاهل بقيمة ما بين يديه؟! فقد خلقت لتحقق ذاتها وتشاركه طموحاته وأحلامه، فيعملا على تحقيقهما معا بمعية التقدير وشكر الله على نعمة المرأة الصالحة المثقفة المنتجة، المساهمة في رقي بلدها وصلاح ذريتها.

العلم وسيلة للرقي الاجتماعي والاستقلال المادي، لكنه أيضا يسمح لنا بأن نحتفظ بعذرية أفكارنا التي لا تقبل المساومة، كيفما كانت المرأة: بنتا أو زوجة أو أما أو أختا، من حقها أن تعامل بإنسانية

في مجتمعاتنا العربية نجد أنفسنا مجبرات على الاختيار بين اتباع مسار الدراسة وتحقيق أمانينا في الارتقاء بثقافتنا، أو بالأحرى تحقيق الاستقلالية المادية التي تفرض على الآخر تقبل فكرة الانعتاق أخيرا من براثن التبعية للأهل أو الزوج، أو انتظار فارس الكوابيس، الذي يحصر وظيفة المرأة في الإنجاب والكنس والتنظيف وتقبل مزاجيته وثورات غضبه وجنونه.

صحيح أن العلم وسيلة للرقي الاجتماعي والاستقلال المادي، لكنه أيضا يسمح لنا بأن نحتفظ بعذرية أفكارنا التي لا تقبل المساومة، كيفما كانت المرأة: بنتا أو زوجة أو أما أو أختا، من حقها أن تعامل بإنسانية، أيا كانت حالتها الاجتماعية، من حقها العيش بكرامة، من حقها أن تحلم بإتمام دراستها، وأن تستشعر قدرتها على اتخاذ قرار يخصها وحدها، من حقها أن تعبر عن رأيها وأن تستنكر العنف والتحقير، من حقها أن تقرر مصيرها بوعي كامل بتبعاته، من حقها أن تحيا بكرامة وأن تكون ما تصبو إليه.

هي عانس لأنها اختارت أن تبقى كذلك في زمن اندثر فيه معنى الرجولة من تحمل للمسؤولية، واحترام ومعاملة حسنة، هي مطلقة لأنها اختارت الانفصال عن طواعية كحل لا محيد عنه كي تحيى بكرامة بعد أن تم اذلالها أو الاجهاز على حق من حقوقها، هي عازبة عن اقتناع، اختارت أن تبقى كذلك الى حين ايجاد شريك الحياة المناسب، لن تتسرع كمثيلاتها لأن الزواج في نظرها غاية وليس وسيلة، هي متزوجة ومستمرة في حياتها مع زوج يرى فيها فكرها قبل جسدها، يحترم فيها وعيها، يقبلها كما هي، ويفتخر بحملها لاسمه كما تحمد الخالق على لقائها بإنسان عاقل وواع مثله.

هي اختيارات في الحياة عن طواعية، بعد إيمان ونضج كبيرين بأن للإنسان حقه في العيش تبعا لقناعاته، بالطريقة التي تجعله راضيا عن ذاته، متحملا لنتائج اختياراته كيفما كانت، ومستعدا لدفع ثمنها مهما كان. حينما يكون الأساس سليما، لا يمكن أن تهز هيكله ريح مهما كانت قوية، هكذا هي القناعات النابعة من تربية سليمة واحترام عميق للذات أولا.

مقتنعات، نحن معشر الفتيات المتعلمات المثقفات، أن الحياة قصيرة تستحق أن تعاش كيفما نريدها، بتخطيطنا نحن، بالطريقة التي تريح الضمير والروح، ليس بأسلوب نمطي وعلى نفس المنوال، بتوقيع ثقيل للآخرين في أولى صفحات حياتنا الخاصة، لأنها تعنينا، وحدنا نعيشها، ولا حق لأحد في تقرير مصيرنا عنا. فلنحيا عذراوات بكرامة فكر حي ينبض تذكيرا بأن الحياة لا تعاش مرتين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.