شعار قسم مدونات

إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا

blogs حمل

الأحرف شائكة متشابكة.. والمشاعر خفاقة حائرة.. والنبض؛ النبض الذي بات لاثنينا ليلتها، أضحى يضمنا ثلاثة.. المسؤوليات تتعاظم.. والمهام تتوالى وتتفاقم.. وأوقات الفراغ لا بدّ مندثرة.. وتلكم الأحلام أمست تتشاركها "لَيا". تفاصيل ذلك اليوم محفورة لن تُنسى، فالتجربة الأولى من كل شيء جميلة منقطعة المثيل، فما بالك وإن كانت تجربة حياة؟! تجربة صناعة إنسان؟! تجربة نبض يدق في أعماقك، ودم بات يسري في أحشائك.

بعد ربع قرن لا زلت أخاف من فحص الدم، لكني يومها هرولت إلى المختبر لا تسعني فرحتي، ومرت الدقائق ثقيلة وأنا أنتظر النتيجة، وقوبلت حمدا للواهب بالإيجاب.. توقف الزمن حينها.. أحقا؟! أحقا سأصير أما؟! أنا التي بنظري ما زلت مراهقة، وبنظر أهلي طفلة، وفي عين زوجي تلك الصغيرة الهشة، وفي مكان عملي أصغرهم، أحقا سأحمل في أحشائي جنينا؟ وأصنع جيلا؟! وأربي إنسانا؟! وأخرج للدنيا عاملا؟! وأنبت للدين مدافعا؟ وأفجر من رحمي للوطن جيشا؟!

ألم يقل القصيمي يوما: "بطن المرأة هو أخطر المصانع في تاريخ البشرية".. من لحظتها وأنا ذلك المصنع الذي عُطلت كافة كوادره، وللمرة الأولى كل المهام على مديره وأعلى هرمه.. من لحظتها يا بنيتي تلعثمت أحرفي، واتسعت ابتسامتي، وسرى الفرح في كل أرجائي، ففي كل رمشة عين ألقاك، وما بينها وبين أختها أخطط لتربيتك وتنشئتك، وأي الأساليب سأتبعها معك؟! من لحظتها يا حبيبتي عدت للدراسة مرة أخرى، فالمعلم العبقري لا بد وأن يجهز مادته للحصة القادمة.. فكيف بمعلمتك أنت؟!

أنا يا أمي يا "لَيا" حملتك وَهنا على وهن، وما تذمرت يوما، ولا شكوت مرة، فكل ألم منك محبب، وكل تعب من أجلك متعة، وكل تفصيل عشته معك تجربة فريدة

أيقنت تماما أن التربية مسؤولية وأمانة، وأني جاهلة بكل التفاصيل التي ستمر بي، وأدركت أني عليّ تربيتي قبل أن أربيك، وتغيير حياتي لتلائمك، وتقويتي صحيا ومعنويا وتربويا لأجلك، وربما راودني شك أني لا أستطيع، ومهلا عليّ بهذا الطريق.. لكني بفطرتي أم، وبشوقي لك مليون أم، وانتظاري لضمك حنان الأرض كله، وتوقي لتربيتك أفضل المدارس، ونيتي في ذلك من قبل ومن بعد لله رب العالمين.

قد تستغربين يا قرة عيني، أن أمك التي هي أنا، والتي يلفت نظرها أحدث الأثاث والملابس، وأبهى الموضات والإكسسوارات، وككل أم لا يلفتها بهذه المرحلة إلا متعلقات الأطفال، باتت كفيفة البصر عن كل ذلك، ففي بالي أسمى من ذلك وأعظم يا لَيا، لا تخافي.. سأوفيك حقك بكل هذا صدقا، لكنه ليس أولويتنا يا حبيبة قلبي ..

أنا يا أمي يا "لَيا" حملتك وَهنا على وهن، وما تذمرت يوما، ولا شكوت مرة، فكل ألم منك محبب، وكل تعب من أجلك متعة، وكل تفصيل عشته معك تجربة فريدة، وفي كل ثانية أنت في رحمي أبني لك حياة ومستقبلا، فخذي رسائلي إليك من الآن، فلا تدري يا بنيتي ما الزمن صانع بنا، واحفظي عني ما أوصيك به يا جزءا مني.. بل يا كلّ كلّي.

* أنا نذرتك لله الذي وهبني إياك، ففي كل قطرة دم تسري فيك فيّ استشعرت معيته وعطاءه ورزقته، فكوني مع الله ولله يا بنيتي، لا شيء أسمى من معية الله إن كنت خالصة له، اعملي ما شئت لتكوني أمة له، وسأكون حتما أول من يعظم شعائر الله في قلبك، سأحفظك القرآن، وأعلمك الأخلاق النبوية، وأفقهك بسيرة الصحابيات، وأمهدك على الصلاة رويدا رويدا، وسأفتح الأفق أمامك لتستنبطي وتستنتجي وتعبدي الله حبا ورجاء لا عادة وخوفا ..

* سأفرش لك طريق الورود والاستقلالية، ستكونين حرّة مستقلة، لا يحدّك إلا حلالا وحراما، سأجعلك تجربين ما شئت، فإن لم نجرب لم نتعلم يا بنيتي، أنت وحدك من يكتشف، لن أملي عليك شيئا، لكني سأكون المراقبة المقوّمة لك، ويدي لن تفلت يدك يوما مهما تعثرنا..

* أنا من يومك الأول في أحشائي وأنا صديقتك، أحادثك كأي صديقة ودودة، وسأعدك أنّا سنبقى كذلك طول عمرنا بإذن الله ..

* كوني يا بنيتي قوية متفردة متميزة، إن حضرت غاب الجميع، وإن غبت افتقدك الكل، إذا صمتّ انتظر حديثك الجميع، وإذا تكلمت استمع لك الجميع وأثنوا على ذلك، لكن ليس عجبا ولا تكبرا، بكل تواضع ستملكين الدنيا..

* حدود الله يا "لَيا" هي لنا الميزان، والعادات نحترمها ما لم تخالف ذلك، وحريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين..

العلاقات الاجتماعية عمود حياتنا، وأنت كأمك أكيد، لكن احفظي ما لك وما عليك، واحفظي خط العودة دائما..

* الوطن يا "لَيا" عزيز، والمقدسات غالية، والسبيل إلى التحرير يحتاج همة وتضحية، فلا تتواني عن ذلك لحظة ما حييتِ..

بعد كل هذا يا حبيبتي، أنا أنتظرك بلهفة وشوق كبيرين، ووالدك متلهف لذلك أيضا، نعدك سنكون لك خير مربيين وخير سند وعون على مشاق هذه الدنيا، حياتنا بك ستصبح أجمل، ولها معنى أبهى
بعد كل هذا يا حبيبتي، أنا أنتظرك بلهفة وشوق كبيرين، ووالدك متلهف لذلك أيضا، نعدك سنكون لك خير مربيين وخير سند وعون على مشاق هذه الدنيا، حياتنا بك ستصبح أجمل، ولها معنى أبهى
 

* كوني بارّة بوالديك، حنونة على أخوتك، محترمة لأجدادك وأقاربك، وفية لأصدقائك، مخلصة لدينك، عاملة لوطنك، ومضحية في كل ما ترين هو الحق والوجهة..

* الحياة مراحل يا صديقتي، عيشي اليوم بيومه، وكل لحظة بحينها، لا تندمي على ما فات؛ بل تعلمي منه.. ولا تستعجلي القادم؛ بل خططي له..

* العلم وحده لا يكفي يا بنيتي، ولو وصلت إلى أقصى الدرجات العليا، فلا تغفلي عن أي نشاط لا منهجي يتاح لك، وكوني شعلة وقّادة وكتلة حماس في كل ميدان تطأه قدماك .

* اقرئي يا بنيتي، لغتنا جميلة ثمينة كنز وفير، سأعلمك المفردات، وأربيك على قراءة القصص، المعجم كنز يا ابنتي، فسأجعله هدية لك في مكتبتك الصغيرة التي سنبنيها معا، فنحن بدون مفردات عبث، وبدون القراءة والثقافة ضعفاء لا نقوى على شيء، فاجعلي من القراءة سلاحك ومن الكتابة حياتك ..

* الإنسان الناجح من يعيش لغيره، فكوني معطاءة معاونة، وسندا لكل ضعيف، لا تبخلي يوما بمساعدة أحد ما استطعت إلى ذلك سبيلا ..

* الكذب في شريعتنا حرام، وفي أخلاقنا آفة، لكنه في المجتمع عادة وأسلوب حياة، لكن إياك ثم إياك منه يا بنيتي، ودعيني أحكي لك شيئا في ذلك: جدك يا ابنتي أوصاني بعدم استخدام " اللهاية" التي توضع في فيه الأطفال، لأن بها كذبا وتحايلا، وهو منع الجميع من أن يضعها في فمي، فأرضعوني صدقا لا يموت، وما تحايلوا عليّ أو خدعوني يوما، وسأعمل على ذلك معك يا حبيبتي، فلن أكذب عليك قطعا بإذن الله ..

* ومسك الختام يا قرة عيني، ربما أفضل شيء عملته لك من قبل مجيئك اختياري لوالدك، فكوني له المطيعة الحبيبة، وكوني به بارة محسنة، لن تجدي يوما أحنّ منه يا ابنتي، ولا أعطف من قلبه على قلبه أنت، وها هو يا "لَيا" يُقرئك السلام والحب والحنان، وينتظرك لتكوني له البذرة الأولى التي سيسقيها بخير ما أعطاه الله، وأنا أنتظر أفضل علاقة أبوية بينكما، تماما كالتي بيني وبين جدك من قبل، فالآباء عظيمون يا عزيزتي، وكوني على يقين بأنّا لن نوفيهم حقهم أبدا ما حيينا.. 

فيا ربنا ومولانا.. تقبل منا ما نذرنا إليك محررا، واصنعها على عينك، واجعلها خالصة لك، بارة بنا وقرة لنا، عاملة لدينك ورافعة له، أنثى يشار لها بالبنان في كل ميدان، اجعلها يا ربنا قائدة قوية، مفكرة مبدعة، صاحبة إنجازات وتضحيات، حنونة عطوفة، واجعلها لك تمضي وفيك تعمل وعليك تتوكل ولأجلك يهون عليها كل صعب ومستحيل.. وأسبغ على لَيا يا رب من نعمتك الكثير.. وأفض عليها من معنى اسمها ما يجعلها مسكا وعودا وبخورا على أهل الأرض أجمعين.

وبعد كل هذا يا حبيبتي، أنا أنتظرك بلهفة وشوق كبيرين، ووالدك متلهف لذلك أيضا، نعدك سنكون لك خير مربيين وخير سند وعون على مشاق هذه الدنيا، حياتنا بك ستصبح أجمل، ولها معنى أبهى.. ننتظرك يا بنيتي.. ونحبك كثيرا كثيرا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.