شعار قسم مدونات

الشعبوية.. أوهام الهجرة وصخب البروباغاندا!

blogs ترمب

يرى مؤيدو الشعبويّة، أنها حركة متمردة ممثلة للحَلقة الأضعف، ضد نخبٍ قاسية وشريرة، إن النقادَ الليبراليين يرون نجاحها كتعبيرٍ عن غضب العنصريين والمتعصبين الذين تُغذيهم الكراهية، أو نهوض ما يُمكن تسميته: بـ "الحِمائيّة الجديدة". أريد أن أناقشَ هنا، أن ما يمثلهُ نجاح هذه المجموعات، هو انعكاس لأزمة مُزمِنة للطبقة السياسية، والمعارضة التقدمية. كما أعتقدُ أن هذه ظاهرة مُعَولمة، وأن ما يميزُ الحزبَ الشعبوي اليوم، أنهُ ليس جزءاً من التيار السياسي الرئيسي، أي أنهُ خارج الإجماعِ الليبرالي، ويتمردُ عليه، وأن ما يجذبُ الكثيرين إلى الشعبويين ليس السياسات، وإنما المواقف.

في تقديري، إن الشعبويّة أعادت رسمَ الخرائِط السياسية العالمية، بخطوطٍ مغايِرة، اقتصادياً واجتماعياً. جَرى تفكيكُ النظامِ السياسي، الذي بُنيّ حول الانقسام بين الأحزاب الديمقراطية الليبراليّة، والمحافِظة. ما خلقَ مساحةً جديدةً للشعبويين، وحوّل طبيعةَ الفضاءِ السياسي. "ما قد نشهده هو نقطةُ النهاية، للتطور الأيديولوجي، لتُقدم عالمية الديمقراطية الليبرالية الغربية، باعتبارها الشكل النهائي للحكم" هكذا كتبَ فوكوياما، في مقالته الشهيرة "نهاية التاريخ" عام 1989 وأستطرد قائلاً: "إن النضال من أجل الحُرية، والرغبة في المخاطرة من أجل هدفٍ مجرد، والنضال الإيديولوجي العالمي الذي أُطلق عليه (الجرأة والشجاعة والخيال والمثالية) سيحل محلهُ الحساب الاقتصادي، ليكّون حلولاً لا نهاية لها للمشكلات التقنية، والاهتمامات البيئية، لتلبية مطالب المستهلكين المتزايدة".

لم يشهد عام 1989 سقوط جدار برلين فحسب، بل أيضاً إشاراتٍ عميقة إلى تآكل الانقسامات الأيديولوجية الرتقيّة التي ميزت السياسة خلال جزءٍ كبير من المائتي عام الماضية. وقد بدأت التطورات التي أدت إلى هذا التآكل قبل عام 1989. ويمكن إرجاعها إلى التحولات السياسية والاقتصادية التي ظهرت قبل عقدٍ من الزمان على الأقل. لكن تهدّم جدارُ برلين، وانهيار الإمبراطورية السوفياتية، والاتحاد نفسه بعد فترة قصيرة، سارعَ من هذه الاتجاهات، وأعاد ترتيبها. يبدو أنه سحقَ إمكانية وجود بديل للسوق كآلية للتنظيم الاقتصادي وبالتالي لـ«الرأسمالية» نفسها.

تحطمَ إجماعُ ما بعد الحرب في سنوات الثمانينيات، من خلال ترسيخ سياسات السوق الحرة. اختفتْ الصناعةُ الوطنية، باختفاء القومية السياسية، لقد تعرضتْ الخدماتُ العامة للوحشية وفُرض التقشف

هذا غير حتمية العلاقة بين اليسار واليمين. إحدى السُبل التي شعر عبرها الناس بهذه التغييرات هي أزمةُ التمثيل السياسي، تفاقمَ الشعورُ بالحِرمان من الرأي، وأن المؤسسة السياسية بعيدة وفاسدة، ما خَلَقَ عجزاً ديمقراطياً. كان الإحساس بالتخلي أكثر حِدّة ضمن أقسام الطبقة العاملة، بالتالي ازدادت مشاعرُ العُزلة مع قيام الأحزاب الديمقراطية بقطع روابطها، اتسعت الفجوة بين الناخبين والنُخب، ما ضاعف من خيبة الأمل، من جدوى السياسة ذاتها.

ليس الصدعُ السياسي الجديد، بين اليسار واليمين، أو بين الديمقراطية والمحافِظة، ولكن بين أولئك الذين يشعرون بأنهم في الداخل – أو على الأقل المستعدون للتكيف – كلما زاد التكنوقراطيين، في عالمٍ ما بعد الإيديولوجي، وأولئك الذين يشعرون بأنهم بلا صوت، مُستبعدون ومحرومون من حقوقهم، أدركَ فوكوياما حقائقَ مهمة حول عالم ما بعد الحرب الباردة.

مضى ربع قرن منذ أن كتب فوكوياما مقالته، تحولتْ السياسة، لا سيما في الغرب، بعيداً عن الصراع الأيديولوجي-بالمعنى التقليدي- نحو الحلول غير المنتظمة للمشكلات التقنية. أدركنا عمقَ التحولات السياسيةُ، وأهمية السياسة والمُثل، التي سارعَ فوكوياما للتنظيّر بمحوها، دُونَ عميق تأملْ. لم ولن يستعاض عن الكفاح من أجل الحُرية والتضامن، أو الصراع الأيديولوجي.

نعم، تلاشتْ الصراعات الإيديولوجية القديمة، لكن بظهورِ صراعاتٍ جديدة، أكثر قتامة، وأكثر جذريّة وفتكاً وأقل قابلية للحوار. في عالم ما بعد 1989 كان عدد قليل من الناس يعتقدونَ أن هناك بدائل عن الرأسمالية، كان على كلٍ من اليسار واليمين أن يُعيد صياغة رؤياه. لقد تهالكتْ الأحزاب الشيوعية، منذ أمد بعيد، ويبدو أن الأحزاب الديمقراطية متجهةً نحو المَصيِر عينه، وقد ضعُفت النقاباتُ العمالية، وتآكلت حملاتُ العدالة.

لم يعد بإمكان اليسار تجذير ذاته، في سياسة الطبقة القديمة، فاستجاب للتضاريس الجديدة. كان العديد من اليساريين ينّظرون دوماً أن الدولة، هي الوسيلة الرئيسية لفرضِ التغيير الاجتماعي. لقد تحطمَ إجماعُ ما بعد الحرب في سنوات الثمانينيات، من خلال ترسيخ سياسات السوق الحرة. اختفتْ الصناعةُ الوطنية، باختفاء القومية السياسية، لقد تعرضتْ الخدماتُ العامة للوحشية وفُرض التقشف، إذ تم تحييدُ النقابات!

لكن ما سبب العداء للهجرة؟

أظهرَت الهجرة التغييرات بصورة أوضح، في الطبيعة المادية للمدن، في إيقاع الحياة الاجتماعية، لكن الهجرة ليست وحدها، ولا حتى أهم محركات هذا التغيير، لو لم يأتي مهاجر واحد إلى بريطانيا مثلاً، فإن البريطانيين اليوم كانوا سيظلون يعيشون في بلدٍ مختلف إلى حد كبير عن ذلك الذي كان عليه قبل نصف قرن.

علينا أن ندرك أن الشعبويّة، ترسمُ خطوطاً على الخرائِط، وتُظهر انقلابا متسارعاً في المزاج الشعبي، أكثر من أي وقت مضى، وأن انتصاراتها، تعني خسارة الديمقراطية، في أكثر ساحاتها رسوخا
علينا أن ندرك أن الشعبويّة، ترسمُ خطوطاً على الخرائِط، وتُظهر انقلابا متسارعاً في المزاج الشعبي، أكثر من أي وقت مضى، وأن انتصاراتها، تعني خسارة الديمقراطية، في أكثر ساحاتها رسوخا

أتحدثُ عن «النسوية، النزعة الاستهلاكية، نمو ثقافة الشباب، العَولمة، انفجار الثقافة الجماهيرية، قبول سياسات الاقتصاد الحر، السوق الحرة، تدمير نقابات العمال، المزيد من الحرية الفردية، تذبذبات المجتمع (تحولات ديمغرافية، وسكانية، وفضاء التواصل) تراجع المؤسسات التقليدية مثل الكنيسة، ساعدت في تحويل هذه الأمم، إلى الأفضل، وأحياناً إلى الأسوأ» لكن المهاجرون قُدموا أولاً ودائماً، رمزاً للتغيير، والتغير إلى الأسوأ. كانت الحربُ السورية، الأكثر أهمية في دفع الأرقام.

لكن هل هو جنون الأرقام؟

وعلى الرغم من حجمها الكبير، إلا أنه من المفيد وضع أعداد اللاجئين القادمين إلى أوروبا في مكانهِم، لا يُمثلُ مليون لاجئ أكثر من 0.2٪؜ من سُكان الاتحاد الأوروبي. لكن مثلاً هناك بالفعل 1.1 مليون لاجئ سوري في لبنان – 20٪ من السكان- تستضيفُ تركيا بالفعل أكثر من 3 ملايين لاجئ. ولدى كل من باكستان وإيران أكثر من مليون لاجيء أيضاً. ومثلاً، وفي غضون شهر، فّر حوالي نصف مليون لاجئ من الروهينغيا إلى بنغلاديش من ميانمار.

وبالتالي، علينا أن نتحدثَ عن بروباغاندا الشعبويّة، تركَ الناخبين شعورهم بالتهميش، فقد تخلوا عن المُثل العليا لليسار، إلى الشعبوية كوسيلة لإستعادة الصوت، ويبدو أنهم استعادوا شيئاً من وجودهم. فمن جِهة، أدركَ السياسيون الحاجة للهجرة، ومن أخرى، قاموا بالترويج لفكرة الهجرة كإشكالية يجب التعامل معها. وقد ساهمت هذه التوليفة السامّة بتطبيع الخوف والازدراء ووصم المهاجرين وإثارة العداء الشعبي تجاه النُخب الليبرالية لتجاهلِ وجهاتِ نظرهم بشأن الهجرة.

أخيرا، علينا أن ندرك أن الشعبويّة، ترسمُ خطوطاً على الخرائِط، وتُظهر انقلابا متسارعاً في المزاج الشعبي، أكثر من أي وقت مضى، وأن انتصاراتها، تعني خسارة الديمقراطية، في أكثر ساحاتها رسوخا، فمن الحتمية بمكان أن نسأل: كيف نواجه المستقبل؟ لكن في عالمٍ ينسلخُ عن الأيديولوجيا لتعبث به رياحُ الحِمائية والفوضوية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.