شعار قسم مدونات

شدة الإدراك.. بين النعمة والنقمة!

blogs الإدراك

يقول ديستوفيسكي: "شدة الإدراك لعنة"، وبنفس المعنى أو ما يحذوه نجد الكثير منا ينعت نفسه بأنه عليل بالغوص بالتفاصيل الدقيقة وشدة الانتباه المفرط. حسنًا، إلى أي أحد تعتبر التفاصيل علّة ومرض؟ بدايةً، أرى الكثير من الناس من يجد لنفسه بين طيّات هذه العبارات مأوى وملاذًا آمنًا. ولكنها طبيعة البشر فإننا دومًا ما نحب أن نعيش دور الضحية ونهيئ لأنفسنا مكانًا بين أزقة التعب والكدر، فمثلًا، لماذا علينا النظر دومًا للتفاصيل على أنها علّة نصاب بها؟ ولماذا نركز جل اهتمامنا بجانبها المعتم ونتجاهل جانبها المشرق؟

حسنًا – كما ذكرت آنفًا – إنها سجيةُ النفس البشرية التي جَبَلَ عليها البشر أنفسهم بنفسهم، السجية التي يجد البشر فيها متعةً في استجداء العطف وفي أن يستجلبوا دور الضحية لعيشهم. ومن الجدير بالذكر أن الواحد منا يبدأ بلعن الذكريات التي يستطيع تذكرها بكامل تفاصيلها الدقيقة، حين تكون فقط ذكريات مؤلمة بالنسبة له. وأقص عليك بضعًا من أمثلة:

حين يخوض المرء منا علاقة – أيًا كانت – وتنتهي هذه العلاقة بمأساة، فلا يذكر المرء منها إلا أنه مرهقٌ بغوصه بتفاصيل هذه العلاقة التي آلت لفراق شنيع لم يكن بالحسبان، ولكنه يتجاهل أن هذه التفاصيل يومًا ما كانت سبب سعادته لولا تحولات القدر عليها. ولستُ أدّعي أنّ تحول التفاصيل السعيدة لذكريات مؤلمة، أمرٌ لا تنفطر له قلوبنا، كلّا، ولكن بإمكاننا أن ننظر للعلاقات – بكافة أنواعها – المنتهية أنها "مرحلة وعدّت" أو أنها محطة لا بد منها، ولا نجعل من الندم راية ترفرف في سماء حيواتنا، روضوا قلوبكم وعودوها على استقبال جميع التوقعات.

للتفاصيل أيضًا جانبٌ جيد ونعمة أنعم الله بها علينا، فانظر لنفسك حين تراها مولعة بالتفاصيل الصغيرة، حين ترى عقلك يلتقط أصغر الإشارات، حين يتنبّه قلبك لأدق الأشياء، ستجد بذلك نعمة كبير

ولو عدنا معا قليلا لقول ديستوفيسكي أن في شدة الإدراك لعنة، لما نفضنا أي غبار عنه !، فبتعمق قليل لفحوى العبارة، نجد أن تعمقنا بأدق أدق التفاصيل فيه محرقة لعقولنا !، إذ يصل بنا الحال أن ندرك قبل العمر المطلوب لإدراك أمر ما، ونعلم ما لا يجب أن نعلمه فنجلب لأنفسنا عبئًا ثقيلًا، ونلقي على كواهلنا ربما ما لا يكون لنا طاقة به!، باختصار شديد حين نرى أننا بإدراكنا وغوصنا بالتفاصيل قد كبرنا قبل أواننا! هناك عبارة أيضًا يتسابق الكثير من البشر داخلها ليتّشِحوا أثوابها وهي: "نحن ضحايا التفاصيل الصغيرة، من ينقذنا من لعنة الانتباه المفرط؟! ". وهنا نقمة أخرى للتفاصيل الدقيقة، بحيث أننا تمت برمجتنا ذهنيًا على النظر إليها على أنها سلبية وبطريقة سوداوية فقط، فنبدأ برثائها والبكاء على أطلالها.

ولكن، أما آن الأوان لأن نفتح عيننا الأخرى لنبصر منها جانبا مشرقًا؟! فللتفاصيل أيضًا جانبٌ جيد ونعمة أنعم الله بها علينا، فانظر لنفسك حين تراها مولعة بالتفاصيل الصغيرة، حين ترى عقلك يلتقط أصغر الإشارات، حين يتنبّه قلبك لأدق الأشياء، ستجد بذلك نعمة كبيرة، خاصة لو كانت تلك الأمور إيجابية محببة للنفس، فهاتِ مثلا حين يمر بك مقطع من آية قرآنية فترى بها تفاصيلًا لا يراها سواك، حين تطرق مسامعك مقطع أغنية طربية، أو بيتٌ من قصيدة، أو فتاتٌ من نثر، فترى قلبك يلتقط أصغر الكلمات وأدق الألحان ليبني بعدها تصوره الخاص ورؤيته المختلفة عن سابقيه ممن سمعوا ولم يعقلوا أو ينتبهوا.

وكنت قد درستُ في الأدب الإنجليزي عن شعراء المدرسة الرومانسية، وأهم ما يميزهم أنهم نظروا للطبيعة على أنها الكل وغاصوا في تفاصيلها الصغيرة، حتى أن بعضًا منهم أخد يحادث الورود ويرى في حفيف الأشجار موسيقى عجزت عن عزفها أعظم الآلات، جرب أن تنظر للطبيعة في أدق صورها وتعمق بشغف في تفاصيلها الجميلة، ستجد نفسك مبتهجًا بتلك الأمور التي لم يلحظها سواك! و من جمال غوصنا بالتفاصيل، حين نغرق بتفاصيل من نحب فنرى فيهم تلك الثغرات الخفية ونبصر فيهم ما لا يبصره غيرنا، فتغدو أولى اهتماماتنا من بعدها هي محاولة المحافظة على جمال تفاصيلهم الصغيرة ورعايتها حقّ رعاية وكأننا بذلك نعلن ملكيتها الخاصة لنا.

وأجمل ما أختم به، هو دعوة إليك عزيزي المكبّل بنيران التفاصيل المحرقة. انظر إلى الكون العظيم، كم من الآيات المحكمات فيه، دع نفسك تبحر في دقة عمارة الكون، دعها تتعرف وتبصر كل خلق الله الدقيق المحكم، ستجد نفسك تهيم على وجهك في تفاصيل صغيرة لن ترى لإتقانها مثيل! هذي جمال تفاصيلنا، فلماذا نمحور أنفسنا حول جانب معتم فقط ؟!، لماذا نضيع أنفسنا في بوتقة الانعزال والتقوقع داخل شعور أوحد؟ لا تدع الجانب المعتم من التفاصيل يفقأ عينك الأخرى، فيعميك عن رؤية شمس الحياة، سر في مناكب الأرض وأنت مبصر بعينين اثنتين هذه الدنيا. تذكر دائمًا إيليا أبو ماضي وهو يقول: "والذي نفسه بغير جمال، لا يرى في الوجود شيئًا جميلا".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.