شعار قسم مدونات

"جمال منصور".. الرجل المبتسم يرحل شهيدا

blogs - جمال منصور

في الـ 31 من تموز (يوليو) عام 2001، أقدمت قوات الاحتلال الإسرائيلي، وباحدى طائراتها العسكرية، على اغتيال ثُلة من رجال فلسطين "الذين لن يتكرروا في تاريخ قضيتها"، عندما اغتالت بصواريخ من صنع أمريكي، القادة؛ جمال منصور (سيد قطب فلسطين) وجمال سليم وعددًا من مرافقيهم وصحفيًا كان في مكتب المركز الفلسطيني للدراسات وسط مدينة نابلس، بالإضافة لطفل قُدّر له أن يكون في ذات المنطقة حين القصف.

 

ارتقى الشهداء وأُسدل عليهم ستار نهاية الدنيا، عقب دفنهما إلى جوار شهداء آخرين في المقبرة الشرقية بمدينة نابلس، بعد أن نُظم لهم مسير تشييع مهيب، لم يَغب مشهده وكثرة الأعداد المشاركة فيه، وصورته، من عقول أهل نابلس حتى يومنا هذا، ولكن غاب عن الاحتلال أنه قتل أناسًا تركوا خلفهم "تركة فكرية" أنبتت العديد من الاستشهاديين الذين كبدوا المحتل خسائر كبيرة وعظيمة.

 

فقد اشتهر جمال منصور بفكره وبشخصيته القوية المحبوبة بين كل الأطياف، ومن كل الشرائح، كان لا يتكبر على أحد ولا يمشي في الأرض مختالًا مرحًا، ذو طابع إنساني محبوب، تعلو وجه الباسم دومًا ابتسامة حيّرت الصديق قبل العدو، لما كان يتصف بـ "علو" المعنويات والصبر. رجل احتكم لعقله لا أهواء شخصية أو مسيرًا يوصل لمنصب، وصنع من عقيدته القوية فكرًا انتفعت الأجيال منه، بعد أن رحل إلى دار البقاء، وما زالت.

 

يعتبر جمال منصور هو أحد مؤسسي حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، حيث التحق في بداية حياته السياسية والدعوية بجماعة "الإخوان المسلمين"، وهو طالب في مرحلة الثانوية العامة في مدرسة قدري طوقان، وكذلك أسس الكتلة الإسلامية في جامعة النجاح الوطنية

حياته مسيرة رجل كان قد أرعب الاحتلال ومن والاه، بفكره القوي والعميق، وكتب بحريته، قبل دمه، تاريخًا فاح عطره وانتشر ذكره بلا دعاية أو مال. بدأ جهاد الاحتلال منذ كان عمره 15 عامًا، كيف لا وهو القائد من صغره وصاحب مقولة "هناك فريقان من الأطفال؛ فريق يقول: أنا مع مَن، وفريق يقول: مَن معي، وقد كنت دائمًا مع الفريق الثاني"

   

ولد شهيدنا بتاريخ 25 شباط/ فبراير 1960 في مخيم بلاطة للاجئين شرقي مدينة نابلس (شمال الضفة الغربية المحتلة)، لعائلة فلسطينية، قد طالها من اللجوء وحرب العصابات الصهيونية عام 1948 نصيبًا، بعد أن هُجرت عن قريتها "سلمة" قضاء يافا في الداخل الفلسطيني المحتل، أنهى دراسته الأساسية والإعدادية في مدراس وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين في مخيم بلاطة؛ مسقط رأسه، وانتقل إلى مدرسة قدري طوقان في نابلس، ليكمل فيها تعليمه الثانوي، بعد ذلك التحق جمال منصور بجامعة النجاح الوطنية، ودرس فيها المحاسبة والعلوم الإدارية، وفي عام 1983، تخرج من كلية التجارة، وأراد السفر إلى الخارج لإكمال تعليمه في الدراسات العليا، قبل أن يُفاجأ بمنعه من السفر من قبل سلطات الاحتلال التي تذرعت بـ "الأسباب الأمنية".

 

هو مؤسس الكتلة الإسلامية (الذراع الطلابي لحركة "حماس" في جامعة النجاح)، وقال عنه الحاكم العسكري "الإسرائيلي"، عندما اعتُقل في بداية الثمانينيات، وتَدخَّل مدير الجامعة للإفراج عنه: "إنه تم اعتقال أحد طلبة الجامعة، ونريد منكم الإفراج عنه". فقال له الحاكم العسكري: هذا ليس طالبًا، هذا "خليفة"، وقيل حينها إنه كان بحمل حقيبة قبيل اعتقاله من قبل جنود الاحتلال، جدوا فيها كل شيء عن الأمة الإسلامية عن مآسيها وأحوالها، عن ظروفها، عن نكباتها، عن الجرائم التي تُرتكب بحقها، عن همومها، عن مزاياها، عن سكانها، عن كل شيء. لذلك وصفه الحاكم العسكري في منطقة نابلس بأنه "خليفة"

 

يعتبر جمال منصور هو أحد مؤسسي حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، حيث التحق في بداية حياته السياسية والدعوية بجماعة "الإخوان المسلمين"، وهو طالب في مرحلة الثانوية العامة في مدرسة قدري طوقان، وكذلك أسس الكتلة الإسلامية في جامعة النجاح الوطنية التي كان طالبًا فيها، ولُقِّب بأنه "أمير المؤمنين"، لأنه أمير الكتلة الإسلامية، ومثلها ثلاث مرات في انتخابات مجلس الطلبة خلال فترة دراسته، وأسس الشيخ الشهيد، مع مجموعة من القيادات الطلابية إطارًا نقابيًّا على مستوى فلسطين المحتلة، باسم الرابطة الإسلامية لطلبة فلسطين وكان مقره القدس.

 

وفي تلك المرحلة تم إصدار مجلة (المنطلق) ليكون أول منبر إسلامي ينطق باسم الطلبة في ظل محاولات الطمس والإخفاء للصوت الإسلامي الصاعد من قبل الاحتلال وإدارة الجامعة، وأصحاب التيارات الفكرية المناوئة، فكان دخول هذا الشاب مكسبًا عظيمًا، وانطلاقة جديدة مهدت لتاريخ جديد للحركة الإسلامية، وأصبح جمال منصور في بدايات الثمانينيات واحدًا ممن يقوم عليهم العمل الإسلامي في مدينة نابلس، وفي هذه الفترة، بدأ الشهيد جمال منصور يتعرف على "سيد قطب" و"حسن البنا"، وأكثر من القراءة لـ "قطب" وتعلّق به، وكان يقول: "من لم يقرأ لسيد قطب فقد فاته معظم الخير…". وقرأ للعلامة يوسف القرضاوي، وكان معجبًا بشخصية الشهيد عبد الله عزام.

   undefined

   

عُرف عن شهيدنا كثرة القراءة، حتى أنه كان يدفع ثمن الكتب الفكرية؛ لا سيما للإمام الغزالي والشهيد سيد قطب، التي كان يقرأها بعد شرائها وهو في سن الـ 16، من مصروفه الشخصي، جمال منصور "الإنسان"، لم تُثنيه كثرة الاعتقالات وملاحقات الاحتلال وأعوانه له عن مواصلة مسيرة الجهاد والدعوة إلى الله؛ اتسم بأنه "رجل حنون"، وكان صاحب رؤية سياسية عميقة وتحليل سياسي وبُعد في التفكير والعمق في تحليل الأحداث والمجريات على الساحة الفلسطينية، وله العديد من المؤلفات السياسية؛ أبرزها: كتاب التحول الديمقراطي الفلسطيني من وجهة نظر إسلامية، وأجنحة المكر الثلاث.

 

له العديد من المنشورات والدراسات التي تتعلق بالقضية الفلسطينية، وكان دائمًا يشارك في الندوات والمحاضرات والمؤتمرات على مستوى الوطن، وكان يقول "إن الشعوب ستأخذ بيدها وستثور على أنظمتها المستبدة، وستقود حكوماتها للتحرر من الهيمنة العالمية وستقودها أيضا لتحرير فلسطين". وهو الذي قال "إن الحركة الإسلامية تقف بكل ما أوتيت من قوة ضد الحكم الفردي الديكتاتوري والاستبداد السياسي وظلم الشعوب، وترفض أن تسير في ركاب أي ديكتاتور مستبد، وإن أظهر الود لها"

 

وكان له نظرة خاصة وثاقبة في نوعية الكتب وطبيعتها، فها هو يضيف إلى عبارة ابن المقفع ما يكملها ويتمم معناها، فابن المقفع يقول: "اقرءوا أفضل ما تجدون، واكتبوا أفضل ما تقرؤون، واحفظوا أفضل ما تكتبون"، فأكمل جمال منصور العبارة بالجملة التالية: "وكان على ابن المقفع أن يقول: واعملوا بأفضل ما تحفظون، تكونوا أفضل الناس"، أسس الشهيد منصور علاقات اجتماعية واسعة ساعدت في نشر ثقافة وتوجُّه وأيدلوجية حركة "حماس"، وله مقولة مشهورة جدًّا: "قد نتعب قليلًا، ولكن التعب لا يعلق بالثياب كما يعلق في النفوس، وإن النفوس التي لديها الهمة تستطيع تجاوز التعب"، كان ذو بعد ديني وروحاني، ما ساعده على أن يكون داعيًا في سبيل الله وفي سبيل عقيدته، "حتى من يسمع له كان يعتقد أن جمال منصور هو عالم في أمور الشريعة الإسلامية"، وفق عائلته.

 

استشهد "جمال عبد الرحمن محمد منصور"، وقد بلغ من العمر حينها 40 عامًا و5 شهور، وفاح عطر دمه في مدينة نابلس، التي ودعت قبل شهيدًا أذاق الاحتلال مرّ الحياة؛ الشهيد القائد صلاح الدين دروزة، وهو صديق الشهيد منصور أيضًا، يرحل الشهداء دومًا عن الحياة الدنيا إلى الحياة الباقية، ولكنهم يتركون لنا إرثًا عظيمًا من فكرهم الذي خطوه بأقلام من رصاص وثبتوه بدماء زكية طاهرة ما اختلطت يومًا بأي عامل يُغير من رائحتها العطرة أو لونها الأحمر الوردي. ويُثبِتُون بتضحياتهم دعائم وركائز مشروع التحرر المستمر منذ أكثر من 70 عامًا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.