شعار قسم مدونات

كيف يمكن للسجون محاربة العنف؟

blogs - سجن

إن من المعضلات التي يواجهها المغرب، تنامي ظاهرتي العنف والإجرام. ما يطرح سؤالا بديهيا حول الحلول الممكنة للحد من هذا الأمر. قد يعتقد الكثير أن الحل يتلخص ببساطة، في اعتقال المجرم واقتياده للسجن. إلا أن مدة السجن غير المؤبد مهما طالت فلابد أن تنتهي، فيخرج السجين إلى مجتمعه، وهنا تبدأ قصة أخرى من قصص العنف. يلح البعض على تعذيب السجناء في السجن، حتى يتجنبوا ما أمكن القيام بشيء قد يعيد تجربته المريرة هناك. ويرى هؤلاء، أن تطبيق مقتضيات حقوق السجين، يعد أحد أسباب تنامي الإجرام، بسبب تفضيل بعض المواطنين لسجن يوفر امتيازات فندق من 5 نجوم على العيش في مجتمعهم الذي غالبا ما يكون مهمشا. وهذا يجبرنا على التساؤل هل حقا السجن عقوبة؟ 

تعتبر عقوبة السجن سلبا لحق يميز الطبيعة البشرية وهو الحرية. ويأتي استهدافها لأنها من الأسباب التي خولت للإنسان أن يرتكب ما ارتكبه من جرم، وحرمانه منها يضمن إلى حد كبير عدم تكرار فعله ما دام غير حر. وبما أن الإنسان بطبيعته يحب الحرية، فإن سجنه هو حتما يعتبر عقوبة. لكن هل هي حقا شر مسه؟  عندما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام، انصروا أخاكم ظالما أو مظلوما، سئل عن نصرة الظالم فقال بمنعه عن تكرار ذنبه. وهذا يعني أن سجن المجرم نصرة له في الحقيقة.. لكن تصوروا لو أعلن القاضي أن فلان مذنب وقال مثلا: حكمت المحكمة بنصرته عبر سجنه، فإن هذا وإن كان متطابقا مع التصور النبوي، إلا أنه يوحي للشاكي بتعرضه للظلم، خاصة عندما تكون شكواه مبنية على رغبته في الانتقام، وهذا ما يخالف التصور الإسلامي القائل: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه." بل إن الانتقام يمكن اعتباره نوعا من أنواع العنف المضاد.

أما لو تحدثنا من وجهة نظر اجتماعية، فإن السجن يمنع الإنسان من الاطمئنان على مصالحه، ولكن من لديه مصالح وانشغالات هو إنسان لا يرغب بالتأكيد في السجن ويتخذ حذره منه، أما من يطرح الإشكال هم أولئك الذين لا يجدون مانعا في السجن ولا يترددون في اختلاق المشاكل، وهي فئة نجدها غالبا تعاني من فراغ كبير في حياتها. هنا لابد أن نتساءل كيف يضع هؤلاء الشباب حريتهم في هذا المستوى من اللامبالاة؟ 

بنظرة بسيطة لسجوننا يبدو من المحال أن يلعبوا أي دور في محاربة العنف إذا لم تتم هيكلتهم بإجراءات وأنشطة إصلاحية حقيقية، فلا يكفي اعتباره مجرد مبنى شاحب لا برامج فيه ولا إصلاح

يلزمنا أن نذكر أولا بمبدأ إنساني شهير، وهو أن الإنسان لا يمكن أن يفرط في أحد مكاسبه إلا في مقابل مكسب آخر يراه أكثر أهمية. فالبنية الإيديولوجية لكثير من الشباب تضع الكرامة في مرتبة مقدسة غير قابلة للمساس. ومن هنا فإن الشعور المتزايد والمستمر بإهانة الكرامة أو ما يصطلح عليه في المغرب بالحكرة يعتبر أحد أهم الأسباب التي قد تجعل مغربيا حرا يتخلى عن حريته فيفضل الحياة في السجن على الحياة داخل مجتمع مستفز ويؤجج الشعور بالإهانة، خاصة عندما يجد ما كان يبحث عنه في مجتمعه من مساواة واحترام، بارزين في السجن مع زملائه السجناء من دون نفاق اجتماعي يئس منه. دعونا نقول أن في بعض الحالات تحول السجن إلى منتجع سياحي مريح بالنسبة للبعض.

هذا ربما يؤيد موقف ضرورة التعذيب في السجن. لكن لو نظرنا إلى الأمر بمزيد من التمعن لوجدنا في الحقيقة أن هذا الأمر هو ترهيب وليس تهذيب. وهذا يعني أن المجرم حتى لو كان يتجنب العودة إلى السجن، فإن عقليته وسلوكياته لن تخلو من نبرة العنف، وهو يختزن في قلبه حقدا دفينا على المجتمع، وقد يستغل أي فرصة تظهر أمامه ليرتكب جرما آخر، وهذا يجعلنا أمام مجتمع غير قادر على المسير دون رقابة. من جهة أخرى، فإن المعاناة التي عاشها في السجن تبين أن القانون جهاز انتقامي عنيف يستعين به المجتمع للانتقام من العنيفين. إذ كيف لمجتمع ينبذ العنف ويعاقب العنيفين أن يستعمل العنف؟

ورغم أننا لا ننكر نجاح هذا الأسلوب في كثير من الحالات في التقليل من الإجرام، بيد أن السجين عندما يستنفذ عقوبته يكون نفسيا قد ازداد مرضا على مرض، ونجده متوجسا خوفا من ارتكاب أي خطأ عندما يكون مراقبا، فتنزع منه روح المبادرة… لذا فإن عملية اندماجه في المجتمع لطالما كانت أشبه بالمستحيلة. وحيث أن تدمير حياة شخص أخطأ مرة، لم يعد مقبولا لأنه خسارة للمجتمع، فإنه يجب أن يتحول السجن إلى مكسب للمجتمع، وذلك بإصلاح السجين حتى يخرج إلى مجتمعه قادرا على إعطاء الإضافة.

وبنظرة بسيطة لسجوننا يبدو من المحال أن يلعبوا أي دور في محاربة العنف إذا لم تتم هيكلتهم بإجراءات وأنشطة إصلاحية حقيقية، فلا يكفي اعتباره مجرد مبنى شاحب لا برامج فيه ولا إصلاح ولا عقوبة. يقول الله تعالى في هذا: "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ"، وإن كنا نريد تغيير ما يطغى على قومنا من عنف وجرائم، فما علينا إلا أن نغير ما تخفيه نفوسنا من حقد وضغائن.

يجب أن يؤدي السجن دوره في التطهير الروحي والنفسي للسجين، حتى يصير ايجابيا لمجتمعه وربحا لوطنه، لذا فلابد من التدقيق في كل متغيرات السجين خاصة النفسية
يجب أن يؤدي السجن دوره في التطهير الروحي والنفسي للسجين، حتى يصير ايجابيا لمجتمعه وربحا لوطنه، لذا فلابد من التدقيق في كل متغيرات السجين خاصة النفسية
 

إن أول ما يجب أن نفكر فيه، هو زرع الشعور بالحب والتعاطف مع المجتمع. يقول الخبير بالإنسان عنه في محكم تنزيله: وإنه لحب الخير لشديد، وهذا يعطينا فكرة فرض الأعمال الاجتماعية على السجين سواء في مراكز خيرية مع الأطفال أو العجائز، أو حتى في الشارع مع العموم … الهدف منها إنشاء حبل الود ولحمة الانتماء بين السجين ومجتمعه، ليتغير سواد الشر والحقد إلى بياض الخير والود، وتذوب فكرة الانتقام مع صفاء روح السلام. وكل هذا يساهم في ضبط السواء النفسي لهذا الفرد.

وبالنظر أيضا إلى مسببات العنف والجريمة، نجد غياب المسؤولية. والمسؤولية لا يمكن أن تأتي إلا بوجود انشغالات هامة في حياة الفرد، وبالتالي فإذا استطاع السجن أن يجعل للسجين بعض الانشغالات التي يهتم بها بعد خروجه فسيكون ناجحا في إنشاء حس المسؤولية فيه. هذه الانشغالات، يمكن خلقها عبر التعرف الدقيق على السجين وعلى ميولاته الفكرية والمهنية، ثم إخضاعه لدورات تكوينية تنمي قدراته المهنية، ليصير شخصا قادرا على الإنتاج، ومن تم مساعدته على تدبير مقاولة من داخل السجن، على أن يكون قادرا على الاستمرار بها خارج السجن بعد خروجه، ليحظى بالعيش الكريم داخل مجتمعه بعيدا عن لغة الجريمة.

وحتى لا ننسى أهمية المكون الروحي للإنسان، فإن من يحمل فكرا سلبيا، لا يمكنه تغييره سوى بمجالسة أصحاب الفكر الايجابي، أو بالتصالح مع ذاته. وهذا لا يحدث في السجون المغربية، حيث تكتظ الزنزانة الواحدة بزمرة من السلبيين يؤثر كل واحد منهم على الآخر فيزيده ظلمات فوق ظلمات، ويصب الزيت على النار فتحرق كل ورقة ايجابية. لهذا فإن السجين لابد أن يتوفر على ما يسمى بالمساحة الشخصية عبر زنزانة خاصة يكون فيها وحده، ينغلق على نفسه حين يشاء ويطل على زملائه الآخرين حين يشاء، وهذا الأمر سيسمح له بالابتعاد عن ضغط السلبية، ومحاورة ذاته والتصالح معها، وبالتالي مراجعة أفكاره وتصفية روحه ونفسه، وقد أفلح من زكاها. كل هذه الأمور تصب في ضرورة أن يؤدي السجن دوره في التطهير الروحي والنفسي للسجين، حتى يصير ايجابيا لمجتمعه وربحا لوطنه. لذا فلابد من التدقيق في كل متغيرات السجين خاصة النفسية التي تعتبر الأكثر حساسية في مسألة إعادة الإدماج. وهذا يفرض الإحسان إليه، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.