شعار قسم مدونات

فلسفة الثورة عند مالك بن نبي

blogs - مالك بن نبي

في كتابه «بين الرشاد والتيه» تناول مالكٌ بن نبي -(ت1973)- قضايا الثورة في بعض البلدان، وبالتحديد في فصول الكتاب (الأول والثاني والرابع)، وضع فيها مالك قواعد ونظريات للحالة الثورية، استلهمها من التجارب الثورية التي عاصرها والسابقة على عصره. وكنت قبل أكثر من عامين قد دونت بعض الملاحظات من الكتاب، وكنت بين الحين والحين أعود إليها تارةً، وتارةً أعود للكتاب وأتوقف عندها، لعمق فلسفته ورصانة طرحه، ولدقة استشرافه لمآلات الممارسات الثورية.

وهذه المرة عدت إليها وحررتها ورتبتها وعلقت عليها، دون تفصيلٍ وتمثيلٍ لضيق المساحة المتاحة. وقد حاولت عرض أهم الأفكار -بتقديري- من الكتاب دون إخلالٍ بها، وقدر الممكن سعيت أن تظهر بشكل يليق بقامةٍ كمالك -رحمه الله- وبقارئ هذه السطور.

فلسفة الثورة عند مالك بن نبي:

الثورة عند مالك من حيث الموضوع، هي «عملية تغيير» تصل الثورة من خلالها إلى أهدافها المنشودة. تغيير جذري لا شكلي، له أسلوب يتسم بالسرعة «ليبقى منسجمًا مع التنسيق الثوري»، وطبيعة تتحدد من خلال تحديد الموضوع الواجب تغييره «ليبقى التغيير متماشيًا مع معناه الثوري»، فما الذي يجب تغييره في الحالة الثورية؟

"الثورة لا تستطيع الوصول إلى أهدافها إذا هي لم تغيير الإنسان بطريقة لا رجعة فيها، من حيث سلوكه وأفكاره وكلماته"
– مالك بن نبي

بما أن الثورة في جوهرها هي عملية تغيير للإنسان، والتغيير مرتبط بالقاعدة الأخلاقية، فأي ثورة لن تنجح إذا لم يكن لها مجموعة من القيم، تشكل قاعدتها الصلبة، التي تنطلق منها وتلتزم بها

إن شعبًا ظل يرزح تحت النير عقودًا طوال، لابد أن مدية المستبد قد نحرت وجدانه، ومعاوله قد فعلت فعلها في طبعه وفكره وخُلقه، ويظهر هذا جليًا فينا فثقافتنا من أبشع تجليات الاستبداد في واقعنا، فيرى مالك أن «أهم عمل ثوري هو تغيير الإنسان»، فما معنى أن تزيل مستبدًا والإنسان مازال ملوثًا برواسب الاستبداد؟! والسؤال هنا: كيف للثورة أن تغيّر الإنسان؟

"إن ثورة ما، لن تستطيع تغيير الإنسان إذا لم يكن لها قاعدة أخلاقية قوية"
– مالك بن نبي

بما أن الثورة في جوهرها هي عملية تغيير للإنسان، والتغيير مرتبط بالقاعدة الأخلاقية، فأي ثورة لن تنجح إذا لم يكن لها مجموعة من القيم، تشكل قاعدتها الصلبة، التي تنطلق منها وتلتزم بها وتسعى لتحقيقها وتجسيدها وتفعيلها. (الحرية-الكرامة-العدالة-المساواة-الإخاء-الخ)، هذه القيم إذا لم تتجسد في الحالة الثورية، إذا فشلت الثورة بغرسها في نفوس الناس، فإنها ستنتهي إلى استبدادٍ آخر، وستتحول القيم إلى شعاراتٍ فارغةٍ وأحلامٍ كاذبة. لذا لابد للثورة أن ترعى القيم وتعلي من شأنها، وبمقدار ما تنجح الثورة في تفعيل القيم بمقدار ما كانت قدرتها على تغيير الإنسان أسرع وأكبر. وهنا قد يطرح سؤال: من المسؤول عن تفعيل القيم ورعايتها؟

بشكل خاص هي مسؤولية المثقف، وبشكل عام هي مسؤولية كل فرد في الحالة الثورية، مسؤولية تنبع من إيمان الناس بثورتهم، وبمقدار ما يقل إيمانهم بالثورة؛ بمقدار ما يضعف شعورهم بالمسؤولية اتجاهها، مما يؤدي إلى ضياعها وفقدان البوصلة. وفي هذه الحال يرى مالك أن «أي انحراف سيكون متوقعًا، وستكون الثورة معرضة لترك مكانها لشبه ثورة» بل الأمر قد يذهب أبعد من هذا عند مالك، إذ أن الثورة قد تصبح «ضد الثورة»!، وهذه ملاحظة دقيقة وعميقة تكشف عن مدى بعد نظر مالك وعمق تحليله، إذا رأينا كيف أن كثيرًا من ثوار الربيع العربي تحولوا لأداة بيد المستبدين وكانوا جسرًا عبر العسكر منه إلى سدة الحكم من جديد، من خلال "الثورة المضادة".

إذًا فلابد للثورة أن تسير طبقًا للقانون الاجتماعي الذي أرشدنا القرآن إليه (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) حتى تصل إلى أهدافها وتحقق مرادها، وتتجنب العبثية والانحراف. وإذا ما نظرنا في الإسلام والسيرة النبوية من ناحيةٍ تاريخية، نجد أن موضوع تفعيل القيم التي جاء بها الوحي، والتي من شأنها أن تغيّر الإنسان العربي، كان موضوعًا واضحًا وبارزًا في يوميات الدعوة.

فالوحي أتى بقيم (التوحيد-العدل-الكرامة-الإخاء-الشورى-الحرية وغيرها) لتحل محل قيم الجاهلية، والنبي كان دأبه الدائم هو تجسيد تلك القيم في أفعاله ومعاملاته وتفعيلها في الواقع وتربية أصحابه عليها حتى أنشأ جيلًا يحمل فكرًا وثقافةً بنيت على ضوء قيم الوحي. فهل كان لرسول الله أن يغيّر الإنسان ومعالم واقعه لو أنه لم يُفعّل تلك القيم التي جاء بها أو أنه فشل في تفعيلها؟!

يشير مالك إلى قضية غفلت عنها بعض الثورات، وهي التزام الخطاب الثوري بالإطار القيمي الذي وضعته الثورة لنفسها، وأهمية القضية في تحقيق الهدف الثوري الرئيسي (تغيير الإنسان)
يشير مالك إلى قضية غفلت عنها بعض الثورات، وهي التزام الخطاب الثوري بالإطار القيمي الذي وضعته الثورة لنفسها، وأهمية القضية في تحقيق الهدف الثوري الرئيسي (تغيير الإنسان)
 

وإذا نظرنا في سِيَر الصحابة، نلحظ كيف أن إيمانهم بالدعوة، كان يدفعهم للحفاظ على القيم والمبادئ والذود عنها، في وجه ثقافة الجاهلية وقيمها. وهنا ندرك أهمية (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) التي ركز القرآن عليها، والتي تمثل آليةً للحفاظ على القيم والمبادئ ورعايتها وتذكير الناس بها، والتي من شأنها أن تحافظ في نهاية الأمر على "الإنسان".

 

"يجب على الثورة أن تحافظ على صفاء لغتها، حتى تحافظ على قدرتها على تغيير الإنسان"
– مالك بن نبي

يشير مالك إلى قضية غفلت عنها بعض الثورات، وهي التزام الخطاب الثوري بالإطار القيمي الذي وضعته الثورة لنفسها، وأهمية القضية في تحقيق الهدف الثوري الرئيسي (تغيير الإنسان). فإذا ما انحرفت الثورة بخطابها عن القيم الثورية، فإن هذا سيؤثر بشكل واضح في "بعث الإنسان"، لأن "التغيير لا يعتري لغة الثورة فحسب، بل سيصيب روحها، وربما يغير الموقف الثوري نفسه". فإذا ما احتمل الخطاب الثوري بعدًا ودلالات عَقَدية وأيديولوجية غريبة عن الثورة ودخيلة عليها، فهذا مع الأيام سينعكس سلبًا على الإنسان، وعندها سنرى التخبط الفاحش في الموقف الثوري (مشروع أمة أم ثورة شعب؟) (ثورة أم جهاد؟) (مدنية الدولة أم دولة مدنية؟) (حكم شرعي أم حكم وضعي؟).

"الصراع الثوري ضد سلطة ما، إنه صراع ماعون العدم مع ماعون الحديد"
– مالك بن نبي

لتتضح الفكرة نعود للوراء قليلًا، حيث أن الثورة عند مالك من الناحية الزمنية، هي "اطراد طويل، يحتوي ما قبل الثورة، والثورة نفسها وما بعدها"، مراحل الاطراد الثلاث "تمثل نموًا عضويًا وتطورًا تاريخيًا مستمرًا، وإذا ما حدث أي خلل في هذا النمو وفي هذا التطور، فقد تكون النتيجة زهيدة ومخيبة للآمال". في المرحلة الثانية من الاطراد -أي مرحلة الثورة-، يجب أن تحافظ الثورة على عفويتها، فليس من شأنها أن تنتج مؤسسات، وليس من صالحها أن تأخذ منحىً منظمًا، وخاصة في العمل العسكري. لأن العفوية تعصم الثورة من الترهل وتحافظُ على فتوتها وعلى طابعها الشعبي، ولأن المأسسة كفيلة بالقضاء على الروح الثورية-كما لاحظ أيضًا بيجوفيتش-.

في الحالة العفوية يبحث ماعون الحديد (السلطة) عن ماعون العدم (الثورة) فلا يجد إلا العدم.. يضربه ويلاحقه ويشدد عليه، لكنه العدم! «الذي في جوهره ومعناه لا يحطم» ولا يقبض عليه

في الحالة العفوية يكون الدافع للعمل، دافعًا أخلاقيًا ثوريًا، مما يصعب عمل اليد الخارجية والدخيلة ويجعل القرار الثوري في مأمنٍ من الاختراق والانحراف. أما في حالة المأسسة فقد يكون الدافع دافعًا ماديًا أو براغماتيًا بشكلٍ عام، ولأن المؤسسة وقودها «المادة» وبحاجة لها لكي تعمل، بالتالي يصبح لدى الثورة قابلية للاختراق من بوابة الدعم، مما يساهم في فقدان القرار الثوري.

في الحالة العفوية تكون الحاضنة الشعبية رافعةً للثورة، وتشكل أهم الديناميات التي تنفخ الروح فيها وتمدها بالطاقة المعنوية اللازمة للاستمرار. في حال مأسسة الثورة واتخاذها طابعًا تنظيميًا نخبويًا، تستمد ماء الحياة من الداعم، فإن الحاضنة ستشعر بأن الثورة قد سُلبت منها وأنها أضحت ضحية حرب، مما يجعل الحاضنة عبئًا على الثورة، والثورة عبئًا على الحاضنة، وتكون كلٌ منهما لعنةً تلاحق الأخرى.

في الحالة العفوية يبحث ماعون الحديد (السلطة) عن ماعون العدم (الثورة) فلا يجد إلا العدم.. يضربه ويلاحقه ويشدد عليه، لكنه العدم! «الذي في جوهره ومعناه لا يحطم» ولا يقبض عليه. فتبدو السلطة حينها كصخرة تسعى لإيقاف نهرٍ هائج، كأنها وثنٌ يزاحم فكرة!

وإذا ما تحولت الثورة لحال (ماعون الحديد) ودخلت حربًا نظامية، فحينها سيكون العامل المؤثر والمجدي هو (العدد والعتاد)، والحسم حينها لصاحب الحديد الأشد إيلامًا والأكثر فتكًا، ولمن هو أحكم تنظيمًا وتخطيطًا.. فلابد للثورة حتى تحافظ على اطرادها، أن تحافظ على قدرٍ كبيرٍ من العفوية والسيولة في صراعها.

 

"فالثورة ليست كإحدى الحروب تدور رحاها مع العدد والعتاد، بل إنها تعتمد على الروح والعقيدة"

– مالك بن نبي

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.