شعار قسم مدونات

إقطاعيات الأيدلوجيا واحتكار الوعي العراقي!

blogs العراق

يقف نصب الحرية وسط العاصمة العراقية بغداد معبرا عن حالة الصراع بين الضحية والجلاد، ينتصر فيها الضحية من خلال كسر قيود سجنه، ومؤسساً لرمزية طالما تغنى بها سكان العراق، حيث ساحة التحرير عنوان اعتراض الشعب على احتكار حقوقه من قبل السلطات، إلا أن حراك الطبقات المسحوقة لا يتعدى التنفيس عن الغضب ليتحول في كل مرة إلى تهمة يتم ملاحقة المشاركين فيها بالولاء لمؤامرة خارجية تولدها الأيدلوجيات المسيطرة على مقاليد الحكم.

فمنذ منتصف القرن الماضي، يتحدث سكان العراق عن التغيير وتحسين الواقع، لكن العامل الأيدلوجي فرض نفسه بقوة وأغلق الكثير من منافذ الحوار المجتمعي، وما بين سيطرة القومي والشيوعي، وآخر بعثي وحتى الأحزاب الإسلامية هي الأخرى عملت على تقييد حرية التفكير النقدي المُنتِج لدى المواطن العراقي؛ بحجة وجود عدو يجب القضاء عليه قبل طرح أي مسائل إشكالية. وفي أكثر فترات سيطرة حزب البعث في الثمانينيات والتسعينيات فرض الحزب حظرا شامل على التفكير خارج نطاق "الحزب والثورة". 

ولد أسلوب البعث بالحكم ردة فعل أيدلوجية عنيفة، اختلفت توجهاتها بين الإسلامي والشيوعي، لكنها اتفقت على حصر التفكير في إطار محاربة نظام الحكم، وكل شيء دون ذلك ترف محرم، وفي هذه البيئة أضيف قيد آخر على عقل المواطن العراقي، وبدأت تتعزز ثنائية "النحن، والهُم"، "نحن معسكر الخير الذي لا يخطئ، وهم معسكر الشر الذي يجب سحقه"، وما أن تتخذ مساراً غير هذا فأنت متأثر بأفكار الأعداء، ويجب إصلاحك قبل أن تفسد نفسك وغيرك، أو يتم استبعادك اجتماعياً، أما من يتمسك بفكر المعارضة يتم إعدامه بجرة قلم.

زجاج المدرسة لصورة الرئيس
المدرسة لا تُعلّم الطلاب أساليب التفكير، إنما تريد منهم أن يحفظوا الكلمات التي تلقى بطريقة التلقين، وممنوع على كل طالب أن يحمل في دماغه فكرة تخالف آراء الحزب

تحول الصراع الأيدلوجي في العراق إلى أسلوب حياة اعتاد عليه الناس، شبيه بحياة الفوضى لمرحلة ما بعد الغزو الأمريكي والتي أصبحت الاعتداءات الإرهابية ضد المدنيين حالة اعتيادية لا تثير الانتباه. والمدرسة في ذلك الوقت كانت أرقى ما يملكه المجتمع، لكنها تعني مؤسسة لتسويق الأيدلوجيا، وفي نفس الوقت اعتبرتها الأحزاب المعارضة بأنها ثغرة يمكن من خلالها التسلل إلى عقول الأطفال والشباب الذين يحشو حزب البعث عقولهم بأيدلوجيته.

لم يكن هناك كتاب مدرسي يخلو من صورة صدام حسين، ومكتوب أسفلها "الرئيس القائد صدام حسين حفظه الله ورعاه"، ويمكن أن يفتقد الصف الدراسي إلى الكراسي، فيجلس الطلاب على الأرض، وفي أغلب الأحيان لا توجد مروحة للتهوية في الأجواء الحارة، ونوافذ الزجاج مكسرة لا تحمي الطلاب من برد الشتاء، ورغم هذه المواصفات المثالية للمدرسة حافظت صورة "الرئيس القائد صدام" على مكانتها، والتي تعلق فوق السبورة ينظر إليها الطلاب طوال وجودهم في الصف. (أتحدث عن نهاية التسعينيات من القرن الماضي).

المدرسة لا تُعلّم الطلاب أساليب التفكير، إنما تريد منهم أن يحفظوا الكلمات التي تلقى بطريقة التلقين، وممنوع على كل طالب أن يحمل في دماغه فكرة تخالف آراء الحزب، فهناك أساليب كثيرة في العقاب، وحكم الأعداء غير مستبعد. وبمرور السنوات ساءت علاقة الناس بالمدرسة والكتاب، وتكونت نظرة سلبية لهذه المؤسسة باعتبارها فرعاً من حزب البعث الذي لا يؤمن إلا بوجوده فقط، وبين الحصار الاقتصادي الظالم على الشعب العراقي، وسيطرة الأيدلوجيا على التعليم، أصبحت قراءة الكتب موضع اتهام، فمن يحمل الكتاب إما أن يكون من أنصار الحزب الحاكم، الذين هبطت شعبيتهم إلى أدناها، أو يكون هذا الشخص الحامل للكتاب من أنصار أحد الأحزاب المعارضة، وهنا قد يتعرض للمساءلة من قبل أعضاء حزب البعث. وما بين تهمة الانتماء لحزب لا يؤمن إلا بنفسه وأحزاب معارضة لا تروج إلا لكراهية السلطة الحاكمة، هناك أناس يقفون على حافة الموت يوميا بسبب المجاعة التي ولدها الحصار فكان التفكير بقراءة الكتاب نوع من الجنون.

زحام الأيدلوجيا

انهارت هذه المعادلة بعد عام 2003، حيث جاء الغزو الأمريكي بقواعد جديدة عنوانها "حرية الرأي والتعبير"، التي تعطي سلطة كبرى للمجتمع ليقوم بدوره ببناء أسس النظام الجديد، فتوقع بعض "المواطنين المثاليين"، أن تنشط مزارع التفكير وتسقى بماء الحرية ليحصد البلد حكومة قادرة على إعادة دولة طالما مثلت مرتكزاً لتوازنات الشرق الأوسط.

لم تعمر أحلام المثاليين طويلا حتى اصطدمت بنار الحرب الطائفية، وانقسم المجتمع العراقي إلى شرائح صغيرة، وعادت "فكرة الحرب ضد الأخر المتآمر الموالي للعدو المُتخيل"، وانصبت التوجهات حول هذا الطرف أو ذاك، حيث لا وجود لمساحة فارغة بين الخصوم يمكن الركون إليها دون الانزلاق إلى فكر "الاحتراب". 

اليوم وفي ظل ما يقال عن حرية الرأي والتعبير في مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المتعددة، لا يزال الفرد العراقي مستبعدا عن الساحة، فالفيس بوك الأكثر شهرة في البلاد تصنع محتواه مؤسسات تابعة للأحزاب وراءها موظفون يعملون بدوام كامل، كل موظف لديه عدد من الصفحات التي يتابعها ملايين الناس، ويتم تقرير الموضوعات التي تنشر بالتعاون مع الموظفين الأخرين الذين يديرون نفس العدد من الصفحات وبنفس التوجهات الفكرية.

الكثير من المدونين المشاهير هم موظفون لدى الأحزاب يجيدون فن التلاعب بالجماهير، ويمزقون ما تبقى من التفكير النقدي للجمهور ليقبروا الديمقراطية إلى مثواها الأخير بدون جنازة ولا تشييع
الكثير من المدونين المشاهير هم موظفون لدى الأحزاب يجيدون فن التلاعب بالجماهير، ويمزقون ما تبقى من التفكير النقدي للجمهور ليقبروا الديمقراطية إلى مثواها الأخير بدون جنازة ولا تشييع
 
مقبرة الوعي

ويندهش بعض الناس من سرعة انتقال الموضوعات السياسية والاجتماعية من أقصى البلاد إلى أقصاها في ظرف دقائق معدودة، وسيطرتها على النشر اليومي لنشطاء الفيس بوك ومواقع التواصل الأخرى، إذ يتصور الكثير من الناس أنها انعكاس لقوة الأفكار الحرة التي أتاحتها التكنولوجيا المتقدمة والنظام الديمقراطي الجديد، لكن الحقيقة أن تلك الأفكار تنتقل من مدون إلى زميله الذي لا تبعده عنه سوى مسافة الفراغ بين كرسيه وكرسي زميله وزملائهم الأخرين الذين يجلسون في غرفة واحدة فيما يعرف اليوم بـ "الجيوش الإلكترونية".

الكثير من المدونين المشاهير هم موظفون لدى الأحزاب يجيدون فن التلاعب بالجماهير، ويمزقون ما تبقى من التفكير النقدي للجمهور ليقبروا الديمقراطية إلى مثواها الأخير بدون جنازة ولا تشييع. وفي ظل سيطرة الأحزاب والجهات المتنفذة لا سيما سفارات الدول الكبرى والصغرى، يمكن لأي مطلع على أن يظهر معرفته للجمهور لكنه قد يواجه هجوما شرسا من موظفي الفيس بوك العراقي يطيح بسمعته مع جمهور استغل أبشع استغلال من قبل "الجيوش الإلكترونية"، للتصفيق للأيدلوجيات المستوردة من الشرق والغرب.

من يظن أن بداية العهد الديمقراطي قد بدأت فهو واهم، لأن هكذا تجربة لا يمكن أن تستورد كمنتج كامل، فالتخلص من الحكم الديكتاتوري التقليدي لا تجعلنا بمأمن من ديكتاتوريات حزبية صغيرة تمسك كل منها بتفكير المجموعة القريبة منها عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الحزبية، والحرية ممنوعة خارج أطر الطائفة أو القومية، وإذا ما حاول المواطن التفكير عميقا في وطنه وخرج إلى ساحة التحرير مطالبا بتحسين أحواله، تنهشه أيدلوجيا الأحزاب مستغلة معاناته للحصول على مكاسب سياسية إضافية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.