شعار قسم مدونات

رواية "عام الفزوع 1864".. لعل الشعب التونسي يتعظ!

blogs رواية عام الفزوع

انتهت رحلتي اليوم مع عام الفزوع للكاتب التونسي حسنين بن عمو. رحلة على طولها قصيرة رغم صفحاتها التي تقارب الستمائة، ورغم مقاطعة فترة الامتحانات -بضغطها ومرارتها- لحلاوة تسلسل قراءتها. انتهت لكنها لن تنتهي، لأنها تتكرر، فقد حدثنا صديق مرة أن الثورات والانتفاضات تحصل كل خمسين سنة تقريبا أو أقل -بمختلف الأشكال- وهي ظاهرة عادية تُطهّر المجتمعات والأنظمة -ولو قليلا.

آاه يا تونس العزيزة! حتى بعد علمنا اليقين من هروب الخزندار نعلم يقينا أيضا أن ثمة الكثير من أمثاله ما زالوا يتمعشون من خزينة البلاد وينهشون من لحوم العباد ويكيدون للوطن كيدا، ونعلم رغم فوات زمن محمد الصادق باي أنه ما زال بين كبار قيادات الدولة من لا يختلفون عنه في حماقته وشذوذه.. لكن أيها الوطن الحبيب ماذا بأيدينا نحن معشر القراء أمام عظمة تاريخك، تاريخنا الذي لا نقرأه، وإذا قرأناه لا نتّعض إلا لِمامًا، ربما لأن حِمله ثقيل على أكتافنا وربما لضعف حيلتنا أمام مقاطعيه والمتصدّين للخوض فيه أو مانعي الوصول إليه، لا أعلم تحديدا!

لقد أحسن الكاتب عملا بنقل هذا التاريخ في قالب روائي، ليس الأول من نوعه ولا الأخير بحسب ما سمعت عن تعدد مؤلفاته في الغرض، وعسى أن يكون للقارئين لذةً وعبرة وعِضة، فلقد أضجرتنا حصص التاريخ الهزيلة في مناهج التعليم، على أنني كنت من محبيها والمتشوقين لحضورها، مع أنها لم تكن تزيد عن ساعة واحدة في الأسبوع، يحاول خلالها أساتذتنا تبليغنا ما أمكنهم لتنوير عقولنا الصغيرة.

نحن فقراء الثقافية التاريخية يا تونس! أحيانا يحاول بعضنا في خضم مسيرته التعليمية الخانقة تعميق البحث والسعي خلف المزيد من المعرفة والإطلاع الفردي عبر وسائل أخرى خارج المناهج المغلقة، لكن الأغلبية الساحقة لا تهتم فماذا يفيد طعام البارحة البارد السمج أمام مغريات الحاضر الساخنة الكثيرة وأوهام المستقبل الضبابية المغرية؟!

سياسة التفاوض التي انتهجها الوزير الأكبر مصطفى خزندار. لم يكن الأمر يعدو عن كونه مماطلة لكسب مزيد من الوقت لتحضير فخ كبير يقضي على كل الحركات الاحتجاجية

لكن من لا تاريخ له لا مستقبل له أيضا. قبل أيام قليلة في أحد مشاهد مسلسل قضاة عظماء في جزئه الثاني، توجه صاحب السيف الخشبي بنصيحة إلى آسره قائلا بأن الأجيال على تواترها ضعيفة بسبب حماقتها في ترك تاريخها وعدم الاتعاظ بما وقع فيه سلفهم فتراهم يكررون الأخطاء ذاتها والعدو الذكي من يضعف الذاكرة التاريخية لخصمه. أذكر هذا وأنا كغيري من المعاصرين نلاحظ بشكل يومي الأحداث في تونس والعالم أجمع من التكالبات السياسية الخفية أو الظاهرة والمكائد والأحداث العظيمة وانعكاساتها…

تنبعث من الراديو بعد نشرة الأخبار المقضّة أغنية كأنما قُدِّرت تقديرا لتؤنس جلستي هذه وتواسي أحزاني على حال هذا البلد ووالد فيه وما ولد، بصوت محمد الجموسي "ريحة البلاد يا با، ورد وياسمين يا با يا با، ريحة البلاد يا خويا، أحلى من العين، ريحة البلاد ما ألطفها، ما نشبع منها يوم، وصحيح ما يعرفها، كان اللي عاش محروم"… ماذا تقول يا سي الجموسي فيمن يعيش في البلاد لكنه محروم! لا إله إلا الله وحسب.

وعدت بألا أطيل لكنني أمام زخم ما علق بخاطري ووجداني عجزت عن الإيفاء بوعدي. لقد عرّت الرواية ما خفي عني من دسائس السلطة واللعب على الوتر الحساس لثقافة الأمة قاطبة من خلال شراء الذمم وبواسطة ما يسمى شيوخ السلاطين! كنت "عقدت النوارة" في التصوف في وقت ما على أنه اعتزال إغراءات الدنيا وتمسك بالعروة الوثقى لكن تبين أن الخديعة الكبرى لا تنجح غالبا إلا بواسطة حاملي لواء الدين لأن العوام يسهل خداعهم بـ "قال الله" و"قال الرسول" بكل تحريفات مقاصدها ومعانيها الأصلية. وإن أردتم الصراحة لقد لعنت الكثيرين وأنا أقرأ عظيم فحشهم وخياناتهم وغدرهم…

إليكم أكثر ما علق بذهني ولا يمكن المرور دون ذكره لتعميم الفائدة:
* التدين الظاهري، النفاق بمعنى آخر، استغلال الدين ولواء الإسلام في التحكم في مصائر الناس، وارتكاب الفواحش بأنواعها من شرب وزنا وكذب وخداع وتزوير وغدر ..و..و..

* سياسة التفاوض التي انتهجها الوزير الأكبر مصطفى خزندار. لم يكن الأمر يعدو عن كونه مماطلة لكسب مزيد من الوقت لتحضير فخ كبير يقضي على كل الحركات الاحتجاجية. وهذا نقلني مباشرة لأقرب كلمة تفاوض سمعتها في الأيام الأخيرة : الوزارة والنقابة؛ التعليم العالي ونقابة إجابة وقبلهما وزارة التربية وأساتذة التعليم الثانوي.

* تحمّس الرعية زمن البايليك لفكرة العودة تحت الحماية العثمانية، وتهليلهم وتطبيلهم لمقدم مبعوث الباب العالي إلى تونس أيام ثورة علي بن غذاهم. لا يختلف الأمر كثيرا عن الانبهار الكبير بتركيا ورجب طيب أردوغان كما لو أنه المخلص لهذه الأمة المسكينة من ويلات ساستها وسنوات ذلها، حتى ذهب بالبعض الحماس إلى تمني عودة الخلافة العثمانية وبلغ بهم الوهن إلى قبول تولية أمورهم لمن هو من غير أهلهم بقبولهم المسبق الدخول تحت راية السلطنة العثمانية -في حال عودتها طبعا- وهم لا يعرفون ربما أن في ذلك مهانة وخزيا لا عظمة وفخرا، ولا يعرفون ربما أن مثل تلك الأنظمة قد عفا عليها الزمن ولا يجوز العودة إلى الوراء، مع أننا كلنا نطمح إلى وحدة تلم شملنا إلا أنها لن تكون على ذلك النحو.

* الخونة من عشيرة الثوار الأقربين الذي وشوا بالمحاربين طمعا في المكافآت أو خوفا من العقاب ولكن نتيجة الوشاية كانت عليهم في النهاية أثقل وأروع. الخونة الوشاة الذي لا يسلم منهم قوم ولا عصر، لا أعرف ما علاجهم! إنهم كالمرض المستفحل في المجتمعات!

* "ما ثماش قطوس يصطاد لربّي"! و"البقرة اللي تطيح تكثر سكاكنها"! دائما ثمة من يترصد للآخرين ويقعد لهم كل مقعد يتحيّن فرصة الانقضاض على الفريسة ليشرب دمها حلالا سائغا، أو دعنا نقل ليمتص خيراتها وثرواتها، أو دعنا نقل كذلك لاستعمارها، إذا لم يكن عسكريا فاقتصاديا أو ثقافيا… والكل يخدم مصالحه حتى لو بدا أنه يحاول خدمة مصلحة غيره..

* رؤوس الأموال من اليهود الذين ورطوا البلاد أكثر في التداين والذين استغلوا احتياج الناس أيما استغلال والذين هربوا الأموال بالملايين والقناطير والمقنطرة. وأعوانهم من بائعي ذممهم من الجواسيس الذين أرى صفة التونسي أشرف بكثير من أن يستحقوها. وعلى رأسهم الفاسد الأكبر: الخزندار والمسرف الأكبر: الباي، وكل المتمعشين من الوزراء والوسطاء في القروض الذين كانوا يقتصون مرابيحهم من كل قرض قبل وصوله خزينة الدولة "هي تشخر وزادت بف!".

undefined

* قائد الثورة الذي فقد حظوته كلها وفتر عن اتّباعه الناس بسبب ركونه إلى الصلح في وقت لا ينفع فيه إلا المقاومة والثبات. يذكرنا بأن "لا مصالحة قبل المحاسبة" ويعلمنا أن الثائر الحقيقي لا يجب أن يتعلق بشيء يمكن أن يضعف إرادته في لحظة ما أو يستغله خصمه في إغرائه به، كطموح علي بن غذاهم في تأسيس زاوية للطريقة التيجانية!

* المرأة التي تستطيع أن تكون سلاحا ذا حدين، الغواية والأمان، "البايوعة" والمقاومة، "الشمطة" والرؤوم، … تتجلى هذه الصور في نساء كثيرات صورهن الكاتب فأبدع في ذلك. ولعل العجيب الذي لم أتوقعه أن الشخصية التي عايشت الرواية كاملة من مطلعها وبقيت بعد رحيل الجميع كانت شخصية نسائية لا أظن التاريخ يذكرها.

* الفكرة السلبية القديمة-الحديثة لسكان الحاضرة عن سكان المناطق الداخلية وأهل الساحل، تلك النظرة المتعالية دوما من قبل الذين ولدوا وعاشوا في الحرير إلى الصناديد الذي خبروا خشونة العيش ممن يسمونهم هم العربان. ولقد عمل الخزندار ومن تحته جميعا -كسياسة فرًق تسدً- على إذكاء الفرقة بين الرعية وتأجيج نار الفتنتة بين القبائل والعروش، ولكن نادرا ما يُتفطن لمثل هذه الخدع التي تنتهي بخسائر فادحة هي في الحقيقة مكاسب لأصحاب السلطة ورؤوس الأموال الذين يحسنون استغلالها.

يمكن للقارئ أن يستخلص الكثير من الدروس التي أشكر عليها شخصيا السيد حسنين بن عمو جزيلا، فأسلوبه في نقل الأحداث وصياغة الحوارات -حتى الباطني منها- كان شيّقا جدا، وأشكره على إيقاد نور البصيرة في لبّ كل من سيفطن لما وراء الكلام المحايد من عبر وحكم. وأرى الرواية تلقى رواجا كبيرا -تستحقّه- منذ صدورها حتى أنّي سارعت لأحظى بنسختي ولو تأخر توقيعها، آسفةً لمن ينتظرون النسخة الالكترونية، وإن دل الانتظار على شيء فإنه يدل على مدى الشوق إلى سبر أغوار مثل هذه الأعمال الأدبية الغنية والراقية. على أمل أن يتم إنتاجها قريبا في عمل تلفزي يعوّض أيام التفاهة وسفاسف المسلسلات غير ذات القيمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.