شعار قسم مدونات

هل جربت إعادة ضبط مصنع أفكارك؟

blogs تأمل

وقعت عيني على فيديو للأستاذ فاضل سليمان يتحدث فيه عن سؤال طرحه عليه ولد صغير عن سبب خلق الله له دون الرجوع إليه والحصول على أذن منه قبل إرساله إلى هذا العالم. لم يطرح سليمان السؤال كتصرف طبيعي يمكن أو يُرجّح صدوره من طفل، بل تعامل مع الأمر كأنه مشكلة خطيرة، ومن الواجب العمل على عدم ظهورها مجددا، وشرع يوضح الأضرار الكبيرة التي يسببها الآباء والأمهات لأبنائهم حينما يعاقبون الجماد حولهم كالسجادة والكرسي عندما تتسبب في أذى لطفلهم، وراح يؤكد "بذلك تجعلونهم يؤمنون أن كل الأحداث تدور خارج إرادتهم، وأنهم لا دور لهم في المشكلات التي تواجههم، لذا ينبغي تغيير طريقة التواصل معهم، وتوضيح أن تصرفاتهم وأفعالهم هي أساس ما يواجهونه من متاعب وآلام وعليهم مواجهتها والتعامل معها".

لا شك أن نصحية سليمان في أهمية تغيير الطرق التقليدية للتعامل مع الأطفال، وحرصه على مشاركتهم واقع الأحداث، أمر يُشاد إليه. لكنني أرى أن ذلك لن يقف أبدا حائلا أمام تساؤلاتهم. أُنّزه سليمان من سوء كلماتي، لكن لا أنكر أن غالبية الدعاة والوعاظ على مر التاريخ عَوّدوا الناس على سماع كلام ظاهري جميل كما هو ظاهر عالمنا الجميل، لكن عند الانتقال إلى التفكير في هذا الكلام ومحاولة تطبيقه نبدأ في الإحساس بالفاجعة. أعتقد أن هذه الكلمات لن تُحدث أي أثرِ على الطفل، ففضوله، وتساؤلاته، ومشكلاته لا ولن تتوقف، كما هي ظواهر، وأسرار، وأزمات هذا العالم.

أليس غريبا ألا يقتصر عجزنا على تفسير أكبر المخلوقات وحسب، بل حتى عن فهم أصغرها وأضعفها أيضا؟! نرى في الشرق الأقصى والغرب أناسا لا يتوقفون عن البحث عن تفسيرات لظواهر هذا العالم الكبير وسلوكيات ذاك الطفل الصغير، ويواصلون وضع النظريات والأطروحات لأفعال وتحركات كليهما، لكن النتيجة تكاد لا تتغير. لا جدوى تقريبا لذلك على الأرض. والوضع بصفة عامة في تردي مستمر على الصعيدين.

هناك علماء يبيعون معرفتهم لكائنات حمقى محسوبة على الإنسان. بشر بعقول شيطانية، باعوا إنسانيتهم، واشتروا شهواتهم، ويعرفون بـ "السادة". عارفون لديهم علم بكامل أركان هذه اللعبة لكنهم صامتون

هم يعملون في كهوفهم الافتراضية في عزلة عن باقي البشر، لا شأن لهم بما يدور على الأرض من جهل، وقتل، وظلم، وعبودية، بل ويوافق غالبيتهم على استغلالهم من قبل بعض الحكام الحمقى؛ من أجل وضع تطبيقات تسمح لهم إشعال حروب بين بني الإنسان، وتوفير كافة الوسائل والأسلحة اللازمة لاستمرارها، ومنهم آخرون يوفرون لهم نظريات للسيطرة على الاقتصاد والمال، وتجويع بني الإنسان كما يشاؤون، وآخرون منهم يبتكرون آليات فكرية لنشر الجهل وترسيخه بين بني الإنسان. 

وهذا يدفعني إلى تصنيف بني الإنسان على هذه الأرض في هذه الأيام إلى أربع فئات: جاهلون حقائق ما يعيشون ويشاهدون، ولا يشعرون بضيق أو نقص تجاه ذلك، هم فقط يهيمون في مساراتهم المرسومة لهم على هذه الأرض، لا فرق بينهم والأنعام بل هم أضل سبيلا. علماء يبيعون معرفتهم لكائنات حمقى محسوبة على الإنسان. بشر بعقول شيطانية، باعوا إنسانيتهم، واشتروا شهواتهم، ويعرفون بـ "السادة". عارفون لديهم علم بكامل أركان هذه اللعبة لكنهم صامتون.

أتصور أحيانا أنني قادر على فهم سلوكيات ودوافع الفئات الثلاثة الأولى، لكنني أشعر بعجز في كثير من الأحيان في فهم فئة العارفين الأخيرة، لماذا هم صامتون؟ ألا يشعرون بآلام ومآسي تجاه عالمهم؟ قيل لنا أن ثمة عارفين ظهروا عبر التاريخ تحت مسميات أنبياء ومُصلحين، ونجحوا في تغيير واقع مجتمعاتهم، ثم أعود وأقول لكن قيل لنا أيضا أن هذه الأرض لم تعد تستقبل أنبياء منذ حين. لكن لماذا؟ هل لا أمل في التغيير؟ صوت داخلي يرد قائلا نعم، ها هم الأنبياء الذين تدّعي أنهم نجحوا في تغيير عالمهم، بعد رحيلهم عاد كل شيء إلى عادته القديمة، وكأن شيئا لم يكن.

أُحدّث نفسي وسط هذه المتاهة، كيف ننتظر إقناع أطفالنا بأمور نحن في الأصل عاجزون عن فهمها؟! لا وقت يُتاح لنا لفهم وإدراك رسالتنا على هذا الكوكب الأرضي، وهذه المجموعة الشمسية، وهذه المجرة بالتحديد. ما هو أصلنا؟ لا نفهم لماذا أتينا إلى هنا؟ ثم لماذا نغادر إلى هناك؟ إذن، فلنترك فطرة الأطفال تدفعهم إلى الفضول، والتساؤل، والبحث، وعندما يسألون عن أشياء نجهل إجابتها أو لم تخطر على بالنا من قبل، فلنتوقف عن خداعهم، ولنخبرهم الحقيقة أننا لم نفكر في ذلك من قبل، مع الإضافة أننا جاهزون لخوض مغامرة البحث معهم، أو على الأقل توفير بيئة تساعدهم في ذلك. لعلهم يوما ما يحققون ما لم يخطر حتى ببالنا من قبل. وعلى أقصى تقدير لن تكون حياتهم أكثر مأساة عما عليها حياتنا اليوم؟ 

ولنواصل نحن قتل وسرقة وخداع بعضنا البعض في سبيل مجموعة مفاهيم استحدثناها، أو بالأحرى فُرض علينا تبنيها. ولنواصل الانشغال بأداء وظائف وواجبات يومية لتوفير احتياجاتنا البشرية، ولنواصل ترديد مجموعة من النصوص المقدسة دون فهم جوهرها، ولنواصل أمور كثيرة تافهة هي عماد حياتنا، والواقع كما هو لا يتغير. ثم الموت والرحيل بخف حنين. أحيانا أشرد في خيالي متسائلا ألم يكن ممكنا أن يكون عالمنا مغايرا لما هو عليه في هذه الأيام؟! لماذا نحن محشورون في هذه الزاوية الضيقة رغم كل هذا الفضاء المعنوي والمادي المتاح لنا؟! لماذا تشير كل ما بأيدينا من معرفة أننا كنا هكذا على مدار آلاف السنين؟! وهل سنبقى هكذا؟! لماذا العارفون صامتون منعزلون؟! هل ثمة قانون يفرض على أصحاب الحكمة والمعرفة الصمت والانعزال؟! هل سنبقى غرباء؟! هل هذه هي الحقيقة الغائبة؟! هل هذه هي ضالتي؟! هل عالمنا الجميل هو نفسنا وحسب؟! وإذا وصلت إلى هنا، فرجاءا لا تتوقف وواصل التساؤل والبحث، لعلك يوما تُهدى. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.