شعار قسم مدونات

الورد الأبيض يواجه الإستبداد.. سوفيا سكول وشيماء الصباغ!

blogs شيماء الصباغ

يوليو تموز 1943 ألمانيا النازية، احتلت قاذفات الحلفاء السماء لشن غارة جديدة، استعد الشعب الألماني بالاختباء وإخلاء الشوارع وحبس الجميع أنفاسه، فهذه الفترة كانت القاذفات تقصف نهارًا وليلًا لتدمير المدن الألمانية بلا رحمة، لكن هذه المرة لم يسمع دوى الانفجار ولا ارتطام القنابل بالأرض فخرج الألمان إلى الشوارع ووجدوها ممتلئة بمنشورات سياسية تناهض الحكم النازي لمنظمة ألمانية تدعي "الوردة البيضاء" حينها علم الجيش الألماني أن الحلفاء يستخدمون ما هو أسوأ من القنابل وهو سلاح نشر الوعي، آلة الرعب التي تخشاها كل الأنظمة الاستبدادية، أما عن كاتب هذه المنشورات هم أشخاص سكنوا القبور منذ عام لكن أفكارهم لم تدفن معهم.

الزهرة البيضاء هي منظمة طلابية سرية أسسها أخوين من نفس العائلة هم (سوفيا سكوا) و(هانس سكول) وانضم لهم بعض أساتذة الجامعات والطلاب، في ذلك الوقت كانت ألمانيا يحكمها أشرس نظام سياسي بقيادة أدولف هتلر الذي أقحم العالم في حرب راح ضحاياها ما يفوق الخمسين مليون شخص، كانت ألمانيا في هذه الفترة تفتح جبهات صراع مع العالم كله بما فيه الاتحاد السوفيتي، وكان رفيق سوفيا يحارب في ستالينجراد ويبعث لها رسائل ومعلومات تصف الحرب البشعة وخسائر الجيش النازي، أما عن أخيها فرافق الجيش النازي في بعض الجبهات لإنقاذ المصابين في الحرب وقد رأى بشاعة الحرب العنصرية والجرائم التي ارتكبت في حق الإنسان، وبناءً على ذلك اختار كلا منهم أن يخاطروا بحياتهم للبدء بتنظيم سري سلمي ينشر الوعي بين الناس بتوزيع منشورات في الأماكن العامة والحافلات والجامعات لفضح النظام السياسي لألمانيا والدعوة لوقف الحرب وانسحاب الجنود والمطالبة بتغيير النظام الحاكم لألمانيا النازية.

سرعان ما صادرت الشرطة السرية
سرعان ما صادرت الشرطة السرية "غوستافو" جميع المنشورات التي تم توزيعها ذلك اليوم وامتثلت سوفيا وشقيقها للتحقيق مع أحد أعضاء التنظيم ليعترف كلا منهم بتفاصيل النشاط
 

نشرت الزهرة البيضاء 6 منشورات فقط في ألمانيا على مدار ما يقارب العام من 1942 إلى 1943 وكان كل منشور يحتوي على معلومات عن الخسائر الألمانية وبشاعة النظام الحاكم لألمانيا وانتقادا لقومية هتلر وتشير بأن خسارة الحرب هو ليس بالشيء البعيد وعلى ألمانيا الانسحاب قبل فوات الأوان وإراقة المزيد من دم الأبرياء، كل هذه الأشياء كانت تثير ضجة في أرجاء ألمانيا النازية مما دفع الشرطة السرية أو ما يدعي "غوستافو" بتولي مسؤولية القبض على أعضاء الوردة البيضاء، وفي 18 من فبراير 1943 اتجه الأخوين إلي جامعة ميونخ ووضعوا ألفين منشور في المبنى الرئيسي ثم رأي أحد عمال النظافة هذه المنشورات فقام باللحاق بهم والإبلاغ عنهم، ليس لما تحتويه المنشورات من معلومات بل اعتراضا على التسبب في اتساخ المكان وعندما علم بمحتوى المنشورات تطوع بسرد ما شاهده دون أن يطلب منه أحد ذلك.

 

ما يثير الدهشة أن هذه الفئة من الناس تتوافر بكثرة في جميع الدول القمعية في أي عصر كان، فالطبقة الاجتماعية الفقيرة هم أكثر المتضررين من هذه الأنظمة القمعية وفي نفس الوقت أكثرهم ولاءً وطواعيةً للنظام الحاكم، هذه الفئة من المجتمع تفتقر إلي الوعي أو التعليم الجيد أو الرغبة في السعي لحياة أفضل، ليس عيبا فيهم بل هذا ما تصنعه الأنظمة الدكتاتورية بالشعوب وهو إقحامهم في حياة محدودة الأفق وقطع أي سبيل لهم في الحصول على معلومة قد تنير عقولهم يوما ما للسعي لحياة أفضل وإغراقهم في وحل من التخلف والرجعية، فمن المنطقي على الأقل النظر إلي المنشورات أولا ثم اتخاذ القرار بالإبلاغ أو الصمت، لكن حياة هذا العامل منحصرة في تأدية عمله فقط بتنظيف المكان، هذا ما دفعه بالصراخ والإبلاغ عن إثنين أرادو تحريره من النظام النازي الذي جرده من إنسانيته وجعل منه آلة بشرية تطيع الأوامر وتعمل فقط.

 

سرعان ما صادرت الشرطة السرية "غوستافو" جميع المنشورات التي تم توزيعها ذلك اليوم وامتثلت سوفيا وشقيقها للتحقيق مع أحد أعضاء التنظيم ليعترف كلا منهم بتفاصيل النشاط وليمثلوا أمام المحكمة تحت تصرف قاضي يدعى "رونالد فريسلر" وهو أحد القضاة المختارين من قبل هتلر لرئاسة محكمة الشعب أو المحكمة النازية وهو أيضا وزير الدولة وهو من أعطى الحكم القضائي ببدء محرقة اليهود "الهولوكوست". تعمد قاضي المحكمة إهانة المتهمين والتحقير منهم ومن رأيهم في سياسة الحكم، كما التزم هانس وسوفيا الدفاع عن أفعالهم وإهانت رأس السلطة في قاعة المحكمة وسط العديد من القادة العسكريين الحاضرين وأظهروا شجاعة كبيرة في توبيخ القاضي. تم الحكم على سوفيا ومن معها بالإعدام ونُفيذ الحكم في نفس اليوم.

   

القاضي الذي حكم بالإعدام على النشطاء الألمان، قُتل في قصف من قبل القوات البريطانية في فبراير من عام 1945 عامين فقط من محاكمة سوفيا، أما هتلر انتحر بعد خسارة الحرب في أبريل من نفس العام
القاضي الذي حكم بالإعدام على النشطاء الألمان، قُتل في قصف من قبل القوات البريطانية في فبراير من عام 1945 عامين فقط من محاكمة سوفيا، أما هتلر انتحر بعد خسارة الحرب في أبريل من نفس العام
 

هذه القصة بكل تفاصيلها تتطابق مع وقتنا الحالي في مصر، أولا بالوقوف عند عامل النظافة فهو يمثل الطبقة الكادحة من الشعب المصري ضحية النظام الحالي والأنظمة العسكرية السابقة التي جردتهم من إنسانيتهم وجعلت منهم أناس يحلمون فقط بتوافر لقمة العيش، والقاضي هو الحاكم الشرعي للبلاد وكل من يستفيد من سلطته وهو شخص تملئه جنون العظمة معتقدا أن حكمهم لن يزول أبداً ولا يستطيعون السماع لأي رأي مخالف، يستخدمون الرعب في السيطرة على الناس ويحتقرون كل من يعارضهم ويقومون بوصفهم بالخونة أو تقليل مكانتهم وإن لزم الأمر سلبهم حق الحياة.

 

رأينا جميعا زهرتنا المصرية "شيماء الصباغ" ناشطة سياسية ماتت في مسيرة إحياء الثورة حاملة أكليل من الزهور، لا تحمل سلاح ولم تتفوه بكلمة، فهي فقط رأت في إحياء الثورة شيئا بسيطا يذكر الناس بطموح الثورة وأهدافها الأمر الذي أرعب سلطة مسلحة بالبنادق والمجنزرات وكان سببا كافيا باغتيالها في الشارع دون حتى القبض عليها، أما عن الأحكام العسكرية بالإعدام التي تنفذ في حق المدنيين خلال أسابيع قليلة فهو يطابق النظام النازي في قضية سوفيا وغيرهم من المعارضين. وأخيرا لا ننسى أيضا كلمات سوفيا وهانس في قاعة المحكمة المليء بالأمل وهذه الروح التي تسكن كل من حارب الأنظمة الدكتاتورية وهذا ما يعيش عليه الشعب المصري هو الأمل.

في يوم ما سنستطيع فيه إزاحة العساكر من قصر السلطة وإعادة الحياة السياسية مرة أخري وحرية التعبير عن الرأي، وبالمناسبة فإن القاضي الذي حكم بالإعدام على النشطاء الألمان، قُتل في قصف من قبل القوات البريطانية في فبراير من عام 1945 عامين فقط من محاكمة سوفيا، أما هتلر انتحر بعد خسارة الحرب في أبريل من نفس العام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.