شعار قسم مدونات

رسالة روحانية إلى القابعين في غياهب السجن!

blogs - jail

الليلُ والنهار.. الصيفُ والشتاء.. الوقتُ واليوم والشهر أعتقد كلَّ هذا لا يعنيهِمْ ولا يُعرَف ولا يكون في دائرةِ الاهتمامِ لديهم فماذا يعني أن اليومَ جمعة أم الفصلُ خريف أم الساعة الثالثة بعد منتصفِ الليل كل هذا لا يَعنيهم! لأنهم لن يستمتعوا بعطلةٍ جميلةٍ ولا سيمشون تحت الأشجارِ المُصفرة ويستَمعونَ لفيروز "ورقوا الأصفر شهر أيلول تحت الشبابيك" ولن يُخلدوا للنومِ في سريرهم بعد مشاهدة النشرة الإخبارية اليومية. لا شكَّ أنهم..! من همْ؟ إنهم السياسيون الوطنيون المدنيون المسلحون الإرهابيون والعُزل والكُتاب والصَحفيون.. إنهم النساء والشيوخ والأطفال والرجال والشُبان وحتى الأطفال الذين يَحْبوا "يلي بدن حرية" كما يُقال.

إليكمُ السلام وألف سلام وإلى جلاديكُم ألفَ لعنةً من الله وإلى أجسادِكُم التي نَهشتها سواطِ الجُبنِ برداً وسلام. إننا نَعلم أنكم قابعونَ على جدران الذاكرة وتائهونَ في ممراتِ الوجود تتجرعون كل أصنافِ الألم والوجع من كلِّ طبق مهشم تعيشونَ في أقبية تحت أسفلِ أرض وتجلسون كل مئةِ شخص في مسلخٍ طولهُ خمسةُ أمتار وعِرضه مترَينِ تتناوبون بين كلِّ فترةٍ وأخرى في إعطاء الأخر قسطاً من الراحة فنِصفكم ينام جانباً على طرفهِ والنصفُ الأخر يقفً من ضيقةِ المكان تنامون على أصواتِ الآهات الخرساء وتفيقوا على أصوات الشتائم والسِواط التي تهوي على أجسادكم وتأكلُ منها هكذا رَووا لنا الأشخاص الذين خرجوا من السجن قَبلِكم وهذا ما شاهدناه في الفيديوهات القاسية المُسربة من قِبَلِهِم.

إنني أكتبُ هذه الرسالة تحت ضوءِ القمر وكُلي أمل بأن النجمات المُتلألِئة ستُوصلها إليكم يوماً ما تلك النجمات التي لا ترونها بالعينِ المجردة لكنكم تتخيلونها في كلِ يوم وكأن سقفَ مهجعكم المُتعفن المُشبك بالعنكبوت سماءٌ مليئة بالنجوم التي تتراقص حول القمر محاولة إغوائه. أولا سأخبركم شيئاً مهما أنتم ومع كل تكبيرةٍ وفي كل سجدة لكم الدعاء الأول لأنكم لستم فقط في البالِ دائماً وإنما غيابكم هو الجرحُ الذي يكوي القلب من قساوته فالاشتياقُ قاتل في طبيعةِ الأمر فكيف إذا كان لشخصٍ يعيشُ في نفس البلد وبيننا كيلو مترات يُمكن عَدها ولا يُمكننا لِقاؤه ولا حتى نعلم إن كان حياً يُرزق أم أنه ماتَ على يد من يستحقون الموت.

 

سمعنا كثيراً من أشخاص سبقوكم إلينا أنكم وفي كل يوم يَمُرُ عليكم تزدادون قوةً وصبراً وأمل بأن ما بعد الصبرِ إلا الفرج وأنه مهما تكالبت عليكم الأوجاع فأنتم موعودون بالفرح

أعلم أن جُلَّ ما يُشغل بالكم وتفكيركم هو أما زالت الثورة مُنتفضة والشعبُ ثائر والثوارُ مدافعين ورجالُ الدين ناصحين مرشدين أم أن كل شيء قد أُخمد وسيُصبح مصيرَكم مصير الإخوان أيام المقبور حافظ الأسد.. إن الثورة مازالت منتفضة والقلوب مازالت ثائرة والحناجر مازالت تصدح والأرض ما زالت ترتوي بدماءِ شهداء قدموا أرواحهم في سبيلِ الوطن في سبيلِ الحق والمظاهرات مازالت تُندد بإسقاط النظام وحزب العمال الكُردستاني وداعش والقاعدة .. الخ!

 

الدائرة قد وسعت قليلاً أعلم أنكم لا تعلمون ما مجرى الأحداثِ في الخارج وأنكم لا تَعرفون سوى أن هناكَ معارك تدور في الخارج وأنه أصبح هناك مناطق محررة ومناطق عدو.. لن أتكلم في السياسة كثيراً لكن سأخبركم قليلاً محرر أي أن لا وجودَ للنظامِ وميلشياته فيه لكن ذلك لا يعني أن الأمان والسلام والاستقرار يسودوا فيه لأن وللأسف قد اتضَّح أن ذاك الأسد قد زُرع فينا في النفوسِ تحديداً أسدُ الظلم والجرم والكُبر والطمع إننا بحاجة لثورة على أنفسنا أيضاً المعذرة لا تيأسوا مما ذُكر كل هذا سيزول بقدرةِ واحد أحد اكتفوا بقول بأن الثورة قضيةٌ رابحة لكنها اُبتليت بمحامين فاشلين والشعب يدفع ثمن فشلِهم.

كلنا في هذه الحياة نعيشُ في سجون لكنها تختلف عن بعضها بضخامةِ سورها ومتانة موادها فأنتم مسجونون وتلك الذين هاجروا إلى بلاد الغرب مسجونون ونحنُ أيضاً مسجونون وحتى تلك الفتاة التي تزوجت ابنُ عمِها رغماً عنها بحكمِ العادات والتقاليد مسجونةٌ أيضاً كُلُنا مسجونون بقيود ظروفٍ معينة لكن مهما قست علينا الحياة هنا ومهما تعرضنا لاجتياحٍ وقصفٍ وقهر وحصار وجوع وتكابل كل هذا لا يُعادل ساعة واحدة على بِساطُ الريح أو عشرُ ثواني على الكُرسي الناري أو قفصُ الفئران كل ذلك لا يُعادل شعور رجل يسمع صوتَ أبيه الذي يبلغ من العمرِ عتيا يُعذب أمامه أقسى أنواع التعذيب ولا شعور رجل يَسمعُ صُراخ زوجتهِ التي تُغتَصب عنوةً في المهجع المجاور .

لا شك أنكم في كل يوم لكم مع الخيال قسطً كبير لا بئس أننا كُلُنا نعيشُ في الخيال لأن الواقع قد حطم أحلامنا وأهدافنا فأصبحنا نلجأ للخيال ونتصور كل ما أردناه. كل شخص مِنكم يجلسُ بعد حفلةِ تعذيبٍ قاسية يتخيل ابنهُ الذي كان يركُلُ في بطن أمه عندما اعتقل وكيف أصبح عمره ستُ سنوات وهو لا يعرف والده بعد والأخر يتذكر رفاقهُ وسهراتِهم وأٌمه التي تنتظره كُلَّ يوم عند عودتهِ من السهرة متأخراً ليطمَئِنَ قلبها وغيره الذي يتذكر خطيبته التي وعدها أن لا يفارقها إلا إذا أتته المنية كُلَكُمْ لكم شريط ذكريات يمرُّ أمام أعينكم كل يوم تاركاً ناراً حامية تكوي قلوبكم..

 

الحياة هنا تمشي إنها لم تَقِفُ يوماً عند أحد تطحنُ كل شيء وتمضي سأخبركم شيئاً مؤلما أنتم الأن تعيشون على أمل.. أمل في كل شيء وعندما تخرجون من المُعتقل سيموت هذا الأمل! الأمل في رؤيةِ من تحبونهم كيف يركضون ويستقبلونَكُم بدموع الفرح أملكم في الفرح الذي ينبُع من الداخل أنتم قادمون من الماضي إلى الحاضر فكل شيء سيكون قد تغير فستفقدوا وجود الكثير مِمَنْ تحبوهم إما شهيد أو مغترب أو مهاجر أو مُهَجَر أو حياً لكنه ميتً من الداخل أي أن قساوة الأيام تركتهُ شخصاً بلا روحٍ بلا خفقان ستفقدون الأماكن والمطارح والمنازل سوريا كُلِها قد تغيرت ملامحها فالطائرات اللعينة والقذائفُ الغادرة قد حولتها لخرابة لكنها ومع كل هذا لم تفقُد جمالِها.

كُلي أمل أنه مازال على قيدِ الحياة وأنه مازال يجلسَ كل يوم في حضرةِ قلبِه وأوجاعِه يُفكر بأُمه وحالها من بعده ويُفكر في أخيه الذي بُترت ساقِه قبل اعتقاله بشهرَين يسترجع ذكرياتُ طفولته
كُلي أمل أنه مازال على قيدِ الحياة وأنه مازال يجلسَ كل يوم في حضرةِ قلبِه وأوجاعِه يُفكر بأُمه وحالها من بعده ويُفكر في أخيه الذي بُترت ساقِه قبل اعتقاله بشهرَين يسترجع ذكرياتُ طفولته
 

سمعنا كثيراً من أشخاص سبقوكم الينا أنكم وفي كل يوم يَمُرُ عليكم تزدادون قوةً وصبراً وأمل بأن ما بعد الصبرِ إلا الفرج وأنه مهما تكالبت عليكم الأوجاع فأنتم موعودون بالفرح ولو بعد حين وأنكم تحملون قلباً شُجاع وروحاً رحيمة رغم أن أجسادكم باتت نحيلة لا تقوى على شيء كمِثلِ نبتة مُنعَ عنها الماء والضوء لفترةٍ طويلة فباتت ذابلة جذورها مُتجعدة لكنها ومع أولِ قطرةِ ماء تعود مُزهرة متينة الجذور لن أطيل رسالتي الأولى لكنني أود في معرفة شيئاً؟!

 

يوماً ما قد أتى إليكم بُرعُماً صغير اسمهُ محمد لقد قُطف في زهرةِ شبابه كَمِثلِ الكثير مِنكم وأُخِذَ من حُضنِ أُمه إلى أحضانِ الجزارين قُساة القلوب إنه وسيمَ الوجه جميلَ العينين ذو كتفين مملوئَين وشعرٌ أسود داكن ودمعة سخية أعلم هذه التفاصيل لم تُعنيكُم أيضاً لأنه حتماً قد تغير كثيرا في مسالِخِهم وبدا جسمه مُنهك وعيناهُ ذابلتان وروحه غدت فيها شقٌ هائل ولا يملُك الاإرة التي تُحيك جرحه سواكم أنتم، خففوا عن برعمي قساوة السجنِ ومرارة الوجع الذي تتذوقونه إنه مازال غضاً قلبهُ لا يقوى على الألم والقسوة والفراق والاشتياق..

 

أعلم أنه قد نضج وأصبحَ شاباً لكن الذي لا نعلمه انه أمازال يجلسَ كل يوم عند الثُقبِ المفقوع تحت شفاطِ المِهجع يُرسل أمانيه ودعائه وآهاته الممزوجة بالوجع إلى الله طالباً منه الفرج القريب أم أنه من أولئك الرجال الذين فارقوا الحياة في عتمةِ الليل تحت السواط التي تهوي وتضربُ أجسادهم وتنهشُ أينما حلت ومن ثم دُفنوا في مقابر جماعية أو رُميوا عند أقرب طريق ومن ثم دُفنوا مجهولو الهوية.

 

كُلي أمل أنه مازال على قيدِ الحياة وأنه مازال يجلسَ كل يوم في حضرةِ قلبِه وأوجاعِه يُفكر بأُمه وحالها من بعده ويُفكر في أخيه الذي بُترت ساقِه قبل اعتقاله بشهرَين يسترجع ذكرياتُ طفولته في حواري دمشق يبكي بحرقة ودموعه تملأ وجنتيهِ وكأنها ينابيعٌ تجري يتمنى لو أن الأيام تعود ويبقى جُلَّ ما يخاف منه هو صفعةً من أبيه لأنه هرب من المدرسة وذهب مع رفاقه باب توما ليأكلوا التسئية. لم أستطع أكتب الآن أكثر لأن الصبحُ بدأ يُلوح والنجوم بدأت تتلاشى ولا وسيط بيننا سواهم.. لا بئس الأيام قادمة وأنا على أمل أنكم ستقرؤون رسالتي هذه وستَحفِلون بما فيها أعدكم عما قريب ستتلقون رسالتي وأنتم أيضاً يمكنكم إرسال رسائل لكن وحدَهُ الله السميع إليكم والمجيب. الحُرية والسلامة لكم وغضبٌ من الله على سجانيكم. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.