شعار قسم مدونات

الفرد بين التمرد أو الخضوع لسلطة الأغلبية!

blogs مجتمع

يكاد يجمع الناس على أن الإنسان اجتماعي بطبعه، وأن له ميولا جامحا نحو العيش ضمن الجماعة، إلا أن مسار تاريخ المجتمعات البشرية يشهد دائما صراعا بين الأفراد والجماعة، بين الأقلية والأغلبية، بين الرغبة في التمرد على الأعراف التي تجسد المنظومة الحمائية للجماعة، وبين الرغبة في فرض السلطة وضمان استمرار الموروثات وترسيخها. وربما يعتقد البعض أن الجماعة بفضل سلطتها دائما ما تتغلب على تمرد الأفراد وتنجح في الحد من نشاطهم خارج النمط المتعارف عليه، إلا أن ذلك رأي خاطئ نسبيا، حيث أن الأقلية دائما ما تسعى إلى تفكيك معتقدات وسلوكات الأغلبية وإعادة تشكيلها من جديد لتخلق أغلبية جديدة، وهذا ما يسمح باستمرار التطور المجتمعاتي موازاة مع سيرورة التاريخ.

الرغبة في ضمان امتثال وخضوع الأفراد.. الأغلبية أو الجماعة:

التكوين المجتمعي الإنساني منذ القدم يعمل بشكل لا شعوري على نسج ذهنيات وسلوكيات ومعتقدات جماعية وفق توافقات اجتماعية تنتج سلطة للأغلبية التي تعتبر أن أي دعوة لتجديد تلك الذهنيات والمعتقدات هي تمرد وخروج عن الجماعة وموروثاتها. تكتسب الأغلبية سلطتها من تماسك العوام أو الجماهير وتوافقهم حول تفكير جماعي معين وبذلك يتعزز لديهم إحساس مشترك يشوبه الفخر بالانتماء إلى الجماعة. ويذهب الجماهير إلى التصديق بأن السلوكات والمعتقدات الجماعية تكون صحيحة بأكملها ولا يمكن التشكيك في صحتها وهو ما يعكس حسب علم النفس الاجتماعي حالة التأثير التي تصيب العقل الجمعي.

ويحدث عند ذلك انصياع وامتثال للجماعة، حتى أن الفرد يعمل على أن يكون ما يقوم به مقبولا لدى الآخرين ويلتزم بالحرص على ألا يخرج عن الإطار المتوافق عليه بينهم وهو ما يؤثر سلبا ويحول دون تحسين السلوكيات والذهنيات وتجديدها. وبالتالي يستمر التقليد والمحاكاة والجمود .Conformity وهو ما يعرف في علم النفس بالامتثال أو الإمعية. منذ النصف الثاني من القرن العشرين خاض مجموعة من علماء النفس دراسات وتجارب على غرار (صولومون آش) التي خلص من خلالها إلى أن الفرد يخضع إلى رأي الاغلبية استنادا إلى سببين:

يطلق البعض على الأفراد (الأقلية) لقب "الاستثنائيين"، إلا أن تصنيف الفرد كاستثنائي يستلزم امتلاكه لكفاءات وقدرات تجعله يحطم الأنماط المتوارثة من السلوكيات والذهنيات

* أولهما هو الرغبة في القبول من قبل المجموعة تفاديا للضغط التي تنتجه عليه وهو ما يسمى بالتأثير الاجتماعي المعياري.

* الثاني هو الرغبة في أن يكون على حق والتي تجعله ينظر للمجموعة على أنها مصدر للمعلومات الدقيقة والموثوقة وهي المسماة بالتأثير الاجتماعي المعلوماتي.

التمرد على النمط السائد والشائع.. الأقلية أو الأفراد:

رغم خضوع الأفراد لسلطة الجماعة وما تفرضه من أنماط سلوكية وضوابط لحريات الا=أفراد، إلا أن أقلية منهم يخالفون ذلك ويخرقون نسق ذهنية العقل الجمعي، ويعود ذلك إلى رغبة الإنسان منذ فجر التاريخ إلى الإبداع والابتكار وتطوير السلوكيات والعادات حتى قبل أن يخلق توافق لبلورة مفهوم المجتمع. يعتبر الأنبياء والفلاسفة وكبار المفكرين أكثر الأفراد خروجا على السائد من المعتقدات والسلوكات التي تنتهجها وتعتنقها الجماعات، حيث يقوم هؤلاء بمهمة ابتكار بديل لما هو شائع، ثم محاولة جعل الجماهير يتبنون فكره لخلق سائد جديد. وهذا ما يجعلهم عرضة لردود فعل الأغلبية الذين يعتبرونهم خصوما.

يطلق البعض على الأفراد (الأقلية) لقب "الاستثنائيين"، إلا أن تصنيف الفرد كاستثنائي يستلزم امتلاكه لكفاءات وقدرات تجعله يحطم الأنماط المتوارثة من السلوكيات والذهنيات، ويتحرر من تأثير الجماعة عليه، وهو ما ليس بالأمر السهل على الإطلاق بالنظر إلى الطبيعة الإنسانية. وتعد إمكانية نجاح الأفراد في محاولاتهم نادرة الحدوث في فترات حياتهم. وأغلب الأفراد الاستثنائيين ينجحون بعد مماتهم، حيث يحاربون وتحارب أفكارهم ويتم إقصاؤهم وتهميشهم بطرق ذكية تجعل الجماهير- مغيبين – ينعتونهم بالمتمردين الخارجين عن فكر الجماعة الصحيح، وتستثمر الأغلبية سلطتها الاجتماعية لكي تكيل الاتهامات القاتلة الكابحة لأصوات الأقلية ويتحول الأمر من عنف لا جسدي إلى جسدي كالتعذيب والقتل والإيذاء. ولا ينجحون إلا بعد أن تبدأ أفكارهم في الانتشار شيئا فشيئا عبر تلامذتهم وأنصارهم الذي يتقاطرون في الخروج من النسق الأغلبي الجماعي، ثم تتواصل عملية التحول إلى الوصول لمرحلة إعادة تشكيل فكر أغلبية جديد يتأسس على ما اعتبر سابقا بفكر الأقلية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.