شعار قسم مدونات

الأزهار الثائرة.. طفولة تحت النار!

blogs الغوطة

احتضن ابنته ذاتُ الربيعِ الرابعِ كما تَحتَضِنُ السُحُبُ قِمَمَ الجبال. قَبّل وجنتها بُعمقٍ شديد. لفَّ ذراعِيها حول عُنقه، أراد أن يتأكد بأنها تَلتفُ كما يلتفُ حبلُ المشنِقةِ حوله ليموت بها عِشقاً. أسدلَ شعرُها الكيرلي ذي اللون البُنّي على كتِفهِ، كأوراق شجرِ الخريفِ تساقطت شوقاً بقدومِ الشتاء. مسكَ أصابِعها الخَدرةِ وشبكها بيده. قلبُها الجليدّيُ يَصطَدِمُ بقلبهِ البُركانّي. جَسدُها الصغير أصبَحَ خفيفاً مُقارنةً بجسدهِ الهَرم. همّ بوضِعها في فِراشِها كما يفعلُ كُلَّ ليلة. هَمَسَ في أُذُنِها أنه سَيوقِظُها غداً صباحاً لِيلعبَ معها مرةً أُخرى. بدأ يحكي لها قِصة الأميرة النائمة وهي مُغمِضةُ العينين كأنّها أميرةٌ تنتظر حبيبها. بينما هو هائمٌ بلحظاتهِ المُختنِقة، دَخلَ عليه الرجلُ صاحِبُ المِعول وقد غَطّت وجهُهُ صفحةٌ من الطين، ثم ناداهُ قائلاً: هيّا يا صديقي فقد حانَ وقتُ دفنِها.

كانت عيناهُ تَستوعبانِ البُحيراتُ العُظمى. ضبابيةٌ في عَينيه. طنينٌ حادٌ في أُذنيه. جَسدَهُ كأنه تابوتٌ لِحفظِ الموتى. شبحُ الحربِ لا تَدَعُ مجالاً للروحِ أن تستريح، فهي تأخذُ أكثرَ مما تُعطي، وتُفرّق أكثرُ مِمّا تَجمْع، وتُذكي أكثرَ ممّا تُطفئ. دَفَنَ الأبُ ابنته في قلبِ حديقةِ المنزِل، وحَرَصَ على أن تكونَ بجانبِها زهرةُ القِدّاح التي كانت تُحبُّها وتلعقُ براعَمَها بطرفِ لسانها لتتذوق العسل الذي تحويه، وهي تلبسُ أجنحةَ فراشةٍ وتنتقل من زهرةٍ إلى أُخرى.

كان قبل هذا اليوم قد أغارت طائرةٌ حقيرةٌ أعدت العدةُ الغادرةَ للحصاد البشري، فأسقطت قذيفةً قذرةَ الصُنعِ على المنزل، فهوى سقف المنزلِ لِيَسقُطَ على جَسَدِها الناعِمِ الصغير. أكوامُ الأنقاضِ المُتراكِمةِ على صَدرِها لم تَدعَ مجالاً للروحِ أن تَلتَقِطَ أنفاسَها لِتَخرُجَ بسلام، كمّيةُ الشظايا عَلِقت في الروح قبل الجسد. لم يحتمل قَلبُها الصغير أن يَستَوعِبَ الرُعب، ولا جَسَدُها الطري أن يحمل كتلة الألم، فأخذها الموت ورحل.

لا يزال قتل الأطفال باليمن والتسبب بإصابتهم بتشوهات وانتهاكات لحقوق الأطفال متفشيا، ومثلت الهجمات الجوية السبب الرئيس وراء أكثر من نصف الإصابات في صفوف الأطفال

الأبُ "جهاد" والابنة "ماريا"، صورةٌ تتكررُ في كل موضعٍ وموطنٍ ومكانٍ في هذه البقعة من الكرة الأرضية، وقصةٌ من قصصٍ كثيرةٍ يعيشها كثيرٌ من الناس في سوريا والعراق وفلسطين وغيرها من البلاد التي نزلت بهم صاعقةُ البرابرةِ وحُكمَ الغَوغاء، فكم من جهاد قطّع الموتُ قلبه، وكم من ماريا غطى التراب جسدها وهي لم تُكمل حُلمُها بأن تصبح فراشة.

ثمانُ سنوات والحربُ كالرحى لم تزل دائرةً في سوريا، فقد وثق المرصد السوري لحقوق الإنسان مقتل أكثر من 20 ألف طفل منذ اندلاع الأزمة في 2011 ولغاية الآن، و 2.5 مليون حرموا التعليم، وملايين اللاجئين والنازحين الأطفال، وقد سلط تقرير منظمة أنقذوا الأطفال الدولية الضوء على حجم المعاناة والمأساة الإنسانية التي يتعرض لها أطفال سوريا، واستعرض تقرير المنظمة الدولية الصادر بعنوان: (الطفولة تحت النار)، ظروف الأطفال السوريين الذين يعيشون في ظروف الحرب، حيث أكد التقرير أن ثلاثة من كل أربعة أطفال سوريين فقدوا أحد ذويهم، وأن طفلاً من بين كل ثلاثة أطفال، تعرض للأذى الجسدي، مبينًا أنهم يعيشون في ظروف إنسانية قاسية، وحرمان معظمهم من الرعاية الصحية.

أما في اليمن فيقول (كولوم لينش) محرر في مجلة "فورين بوليسي" : أنه لا يزال قتل الأطفال والتسبب بإصابتهم بتشوهات وانتهاكات لحقوق الأطفال متفشيا، ومثلت الهجمات الجوية السبب الرئيس وراء أكثر من نصف الإصابات في صفوف الأطفال، حيث لقي 349 طفلا حتفهم، وجُرِحَ 333 آخرون. وفي فلسطين، فقد أجرى المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان بحثا ميدانيا خلال السنتين الماضيتين على عينة من 340 طفلا من سكان قطاع غزة، ظهر أن 96 في المائة منهم يعانون بما يعرف بـ (اضطرابات النوم لدى الأطفال)، كما يعاني 87 في المائة من الأطفال الذين شملتهم العينة من إصابات بالصدمة أو الذهول، ولوحظ على 89 في المائة منهم وجود تغيرات في الشهية، وقال مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا" في تقرير له، أن إسرائيل مارست جرائم بشعة بحق الأطفال، وهذا يمثل (جريمة من الجرائم التي يحاسب عليها القانون الدولي الإنساني).

قد نجد نفس الإحصائيات البشعة بشكل متفاوت نسبيا من بلدٍ لآخر حسب كمية اللعنات التي يُسقِطُها أربابُ الموتِ وصُنّاعُ الحرب، فالحروب التي تأكل لحوم البشر، ستصل في النهاية إلى عظام قائدها ومدبرها، والحروب التي تنتشر لتعلي نجمة على الكتف، لو لِتُسقِطَ الدراهم في الجيب، أو لترفع شأن إنسان على إنسان، كفيلةٌ بأن تكون حرباً ذاتُ جريمة مكتملة الأركان، قد تثور وتنفجر، لكن شظاياها بالتأكيد ستنغرز عميقا في صفحات التاريخ لتنفجر مرة أخرى على مرتكبها.

إن نظرة الرُعب في وجهِ طفلٍ أثناء الحرب تُعادِلُ رُعب مشهدٍ لخمسين مليون جثةٍ سقطت في الحرب العالمية الثانية، فلا توجد روح حصدت أطناناً من الرعبِ كما يَحصِدُها طِفلُ في زمن الحرب، لكن الأمر المؤكد أن ذاكرته وروُحهُ تَستعيرُ بَواعِثَ الجُرأةِ والصلابةِ والقوةِ في كل مَرحلةٍ من مراحِلِ حياته، وكلمّا كان الرُعبُ قوياً كانت الرَغبةُ في النمو أكبر، والحاجةُ إلى الانتصار أشدّ، وستظل ذِكرى "ماريا" خالدةً مثل بُرعُمٍ يَتفتّحُ على صفحةٍ من صَفحاتِ القمر، وسَيُنبِتُ تراب التاريخ جذراً عنفوانياً لتَنبُتَ الأزهارُ مرةً أخرى، ولتعود أسطورةُ الميلادِ مُدّويةً وفق مقولة الشاعر "أحمد مطر" حينما قال: (غداً سوف يرى كلُّ الورى كيف تأتي صَرخةُ الميلادِ من صَمتِ القبور، تَبرُدُ الشمسُ ولا تبردُ ثاراتِ الزُهور).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.