شعار قسم مدونات

اليمن وموجة صراع الأفكار

blogs اليمن

في الآونة الأخيرة طفت على الساحة اليمنية عبر العالم الافتراضي موجة صراع فكري حاد حول اسم الدولة وشكلها، هل هي دولة علمانية أم إسلامية وهل هناك فرق بين الدولة الإسلامية والدولة الدينية وهل ثمة خلاف بين الدولة المدنية والدولة العلمانية، وهل الدولة المدنية المتوافق عليها في مؤتمر الحوار الوطني الشامل هي دولة ديموقراطية علمانية أم دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية، وقبل هذا الصراع لا زلنا نعيش جدلا يتعلق بالهوية والأمة وتأثير المذاهب الوافدة على الهوية واستلاب الذات اليمنية كما يسميها البعض، وفي هذه النقطة بالتحديد لا زلنا نعيش خلافا يتعلق بالأسباب الحقيقية وراء الانقلاب الحوثي على الشرعية اليمنية هل تحمل بعدا سياسيا أم دينيا وهل البعد الديني له ارتباط طائفي عقيدي أم فقهي، وهل هناك خلاف بين أفكار الحوثي التي يستند عليها وبين أفكار المذهب الزيدي الذي حكمت أئمته اليمن فترة طويلة.

لا شك أن الكثير ممن يرصد مثل هذا الصراع وخصوصا الجدل الأخير حول العلمانية والإسلامية يدرك أن هناك وجه إيجابي فيه يتعلق بالوضوح في الطرح، ومحاولة الخروج من عقد الماضي المستفحلة، فالصراع الفكري بداية النهوض هكذا تقول تجارب النهضة وسنن الحياة، والنقطة الأولية في النهوض هي تلك المتعلقة بعالم الأفكار كما يشير لذلك المفكر الإسلامي الراحل مالك بن نبي في شروطه للنهضة، فالفكرة عندما تُطرح تكون جيدة من جانب وتحمل نواقضها من جانب آخر فيحدث الصراع بين الفكرة ونقيضها، فالناقضون للفكرة يستغلون النقص الموجود فيها ليطرحوا فكرة أخرى على نقيض الفكرة، ثم يبدأ الصراع بين الأفكار فتتولد فكرة جديدة من رحم هذا الصراع، ومن ديمومة طرح الأفكار ونقيضها يتقدم البشر طورا بعد طور في سلم النهوض والتقدم هكذا يقول الفيلسوف الألماني هيجل.

 

لكن يجب علينا أن نفرق بين التعامل مع النصوص القطعية وبين التعامل مع الأفكار البشرية، ويجب علينا كذلك أن نعرف أن الفكرة التي لا تقبل التعايش ولا المراجعة تقتل نفسها ببطء، كما أن الوقوف عند المصطلحات والمفاهيم من دون إيجاد رؤية عصرية يعني الجمود والتخلف، فلا يجوز التغني بالماضي مع عدم إيجاد حل للحاضر ورؤية للمستقبل كما يوضح ذلك الدكتور جاسم سلطان في "فلسفة التاريخ".

هناك تخوف حقيقي لدى التيار المنادي بالدولة العلمانية من حكم الإسلاميين، لما شاهدوه ربما من فشل نماذج حملت المشروع الإسلامي وفشلت في تطبيقه

وفي المقابل هناك سلبيات واضحة وهي خوض البعض في إطار المسلمات المجمع عليها، أو تحويل الصراع من عالم الأفكار إلى عالم الأشخاص وهو ما أدى إلى ظهور مصطلحات من قبيل العمالة والكهنوت، وكان الأولى أن يوضح كل فريق رؤيته لعله أن يجد نقاط اتفاق واسعة مع الآخر بعيدا عن عقد الخلاف الشخصي والانتصار للنفس، صحيح أن هذه الطريقة في مناقشة الأفكار ضرب من المثالية لكن عندما تكون نسبة الشخصي واسعة هنا تكمن الخطورة ويتشتت الحديث، وإذا كانت نسبة الشخصي أقل سنجد أن هناك مسائل واسعة لا تمثل خلافا بين التيارين، وحدها التصورات المسبقة والعقل الجمعي ساهما في توسيع الهوة أكثر وأكثر.

وفي خضم هذا الجدل بقي كثير من المتابعين يرصدون الموجة من بعيد ويتابعون وجهات النظر المختلفة وردود الأفعال المتشنجة أحيانا، وقدم البعض منهم رؤيته الجديدة للدولة، وكان منهم الدكتور أحمد الدغشي الذي خرج من إشكالية العلمانية والإسلامية واضعا ملامح عامة للدولة وسماها "دولة العدالة" التي يقول عنها: "الحق أننا إذا كنا لانزال متفقين على مركزية الدين في الدولة المعاصرة المنشودة، مع وقوع الإشكال في مصطلحي العلمانية، وحتى المدنية كذلك، المعبِّرين عن مقصودنا، فإن مصطلح (دولة العدالة) لا يحمل أيّاً من ذلك اللبس، ولا يلتبس بعناوين مريبة تدعو إلى النفور منه ابتداء".

 

في حين يرى الأستاذ عصام القيسي أن العلمانية ليست مذهبا فلسفيا ولا عقيدة دينية، وإنما هي عبارة عن متتالية زمنية تنظم العلاقة بين الدين والدنيا ويمكن فهمها من خلال تاريخها، لكن هذا لا يمنع أن يكون وراءها رؤية فلسفية، ولا يمنع أن تكون هذه الرؤية الفلسفية ذات مرجعية دينية كما يرى، وهو بهذا الطرح يشير لنظريته السابقة التي سماها "العلمانية الثالثة"، التي تعني "فصل المذهب عن الدولة" والتي تجاوز من خلالها العلمانية الشاملة (فصل الدين عن الحياة) والعلمانية الجزئية (فصل الدين عن السياسة) وتجاوز في المقابل الأيديولوجيا والبرادايم إلى الميتا أيدولوجي "ما وراء الأيديولوجيا" وهي النصوص المرجعية، واضعا ثلاثة شروط تتعلق بتطبيق هذا النوع من العلمانية، وإن كنا نتفق أو نختلف مع طرح كل منهما، أو مع الطرح السابق إلا أن من الأهمية بمكان أن تتلاقح الأفكار حتى تتضح الطريق.

ومما يجب أن نتفطن له أن هناك تخوف حقيقي لدى التيار المنادي بالدولة العلمانية من حكم الإسلاميين، لما شاهدوه ربما من فشل نماذج حملت المشروع الإسلامي وفشلت في تطبيقه، في حين لم يقدم هذا التيار إلى الآن من وجهة نظرهم إجابة واضحة للأسئلة الكبرى المتعلقة برؤيته للحكم وفهمه للحقوق والحريات وتصوره للديموقراطية ومدى قبوله بالآخر، كما أن هناك تخوف حقيقي لدى التيار المنادي بالدولة الإسلامية من النموذج العلماني وخاصة العلمانية العربية التي حكمت العالم العربي ولا زالت، ولم يقدم هذا التيار رؤيته للعلمانية وماذا يريد منها ولم يوضح موقفه من مرجعية الشعب وثوابته، وهذا التخوف نفسه حاضر في كل مكان وجعل مفكرين كبارا كالجابري سابقا وعزمي بشارة لاحقا يقدمون مصطلح الدولة الديمقراطية على الدولة العلمانية. أخيرا أظن لو قدم كل فريق رؤيته الواضحة، وانتقلنا من صراع الأشخاص إلى صراع الأفكار فإن الصراع سيثمر وسيؤتي أكله، خصوصا ونحن نعيش حرب استعادة الدولة التي تفوق أهميتها أهمية الجدل القائم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.