شعار قسم مدونات

فوضى الإنترنت.. هل يجعلنا جوجل وفيسبوك أغبياء؟

blogs هاتف

"الإنترنت هو أكبر مستنزف للوقت تم اختراعه في حياتنا"

– فرانسيس بوث

 

في قصة متكررة: تقضي وقتاً لطيفاً مع صديقك أو مع شريك حياتك في إحدى ليالي الشتاء وتتجاذبان أطراف الحديث سويًا، وبينما أنتما في هذه الحالة الشعورية الجميلة، إذ ينطلق رنين هاتفك الذكي معلمًا إياك بوجود إشعار جديد، ولسبب ما، تنهض على الفور لترى الإشعار. وبعدما تنهي رؤية الإشعار، تنتقل لتتفقد بريدك الإلكتروني، ثم تأخذ نظرة خاطفة على تطبيقات المحادثات والرسائل الفورية، وتستمر محدقاً في شاشة هاتفك لتلقي جولة سريعة على حساباتك في شبكات التواصل الاجتماعي، وبينما أنت هناك منغمس في عالمك الالكتروني وفي غضون كل ذلك، يحدّثك شريكك بكلمات لم تسمع منها شيئًا، فتتمتم قائلًا: "همم.. ماذا قلت؟"(1). يغضب شريكك ثم ماذا عن المحادثة التي كنت تجريها؟ أين ذهبت؟.. كيف استطاعت شبكات التواصل اختطافك من حياتك؟ وكيف تؤثر مواقع التواصل الاجتماعي على اجتماعنا الإنساني بالسلب وتفقدنا تركيزنا وشغفنا وتضيّع انتباهنا بشكل مستمرّ؟

 

أسلاك المخ وأسلاك شبكات التواصل

يطلق العلماء على قابلية المخ للتغيير والتأقلم مصطلح "المرونة العصبية Neuroplasticity"، فنحن عندما نتعلم مهارات جديدة (مثل العزف على آلة موسيقية، أو المذاكرة بطريقة معينة) تنشأ مسارات جديدة في المخ(2). وبالمقابل، إذا توقفنا عن العزف أو غيّرنا نمط سلوكي معين في حياتنا، ستضعف هذه الروابط العصبية وستقوى محلها روابط أخرى في مناطق أخرى حسب المهارات والأفعال الجديدة التي نعتاد عليها. من خلال هذه المرونة العصبية تؤثر جلستنا على الإنترنت وشكل تصفحنا للمواقع والرسائل على أعصاب مخنا، كما يشرح الكاتب الأمريكي نيكولاس كار قائلًا: "بينما يحل الوقت الذي نقضيه في تصفح الإنترنت محل الوقت الذي نقضيه في قراءة الكتب، والوقت الذي نقضيه في تبادل الرسائل النصية القصيرة محل الوقت الذي نقضيه في كتابة جمل وفقرات كاملة.. تضعف الدوائر التي تدعم تلك الوظائف والأنشطة الفكرية القديمة وتبدأ في الانهيار".

 

ويستكمل كار: "يقوم المخ بإعادة تدوير الخلايا العصبية ونقاط التشابك العصبي المهمَلة لاستخدامها في مسارات أخرى متعلقة بأعمال أخرى أكثر إلحاحًا. وبهذا الشكل، نكتسب مهارات ورؤى جديدة، إلا أننا نخسر مهارات ورؤى قديمة"(3). فإذا كانت مسألة المرونة العصبية حقيقة علمية حاليًا، فكيف نفهم دور مواقع التواصل الاجتماعي في الإضرار بمخنا؟

 

التشتت طريق الفشل
طبيعة وسائل التواصل الاجتماعي أنها تغيّر من بنية المخ البشري، لما تتسبب فيه من قطع لتركيزنا وتقليل من إنتاجيتنا، فتمنعنا من قراءة الكتب أو من التفوق في دراستنا

تصف الكاتبة الأمريكية فرانسيس بوث في كتابها: (مصيدة التشتت: كيف تركز في فوضى العالم الرقمي) حالة التشتت الرهيبة التي يعيشها الجيل الحالي بسبب الإنترنت فتقول: "تجذب الهواتف الذكية انتباهنا بمهارة بعيدًا عن أي شيء وتشتتنا بالكامل. انظر! هناك ضوء يومض! حالة طارئة على كوكب العقل! إذا كانت هناك رسالة جديدة، لا نستطيع مقاومة تفقدها. وهذا هو رد فعل السعي للمتعة. فالرسالة تعطينا مكانة، وتزيد من غرورنا بأنفسنا، شخص ما يحبني! رسالة واردة! يجب أن أراها!" (4). أما جو كراوس، الشريك في شركة جوجل فنشرز، فيركز على المراهقين خصوصًا ويطرح تساؤلات مثيرة للقلق حول الأثر المؤلم للتشتت: "هل تعرف كم متوسط عدد الرسائل النصية التي ترسلها وتستقبلها مراهقة يتراوح عمرها بين 13-17 عامًا كل شهر؟ المتوسط هو 4000 رسالة. أي رسالة كل ست دقائق، عندما تكون مستيقظة. والمراهقون الذكور ليسوا أفضل كثيرًا، 3000 رسالة.. فكّر في ذلك، تتم مقاطعتك مرة كل سبع دقائق. ما نوع الثقافة التي يبنيها ذلك؟ ما نوع التدريب العقلي الذي تقوم به؟"(5).

 

يمكننا أن نستخلص بعض الإجابات لهذه التساؤلات من التجربة التي يرويها أستاذ علم النفس بجامعة كاليفورنيا لاري روزن، حيث طلب أحد المحاضرين في إحدى محاضراته من الجمهور المكوّن من 500 شخص أن يعطي هاتفه إلى الشخص الذي على يمينه بحيث يكون خارج متناول يده. وبعد مرور حوالي 15 دقيقة سأل المحاضر الحاضرين عن شعورهم، فقال معظمهم إنهم شعروا بالانزعاج والقلق بسبب ابتعاد هواتفهم عنهم لدرجة أنهم لم يستطيعوا التركيز في المحاضرة(6). وفي نفس السياق أُجريت دراسة أخرى مثيرة للقلق(7)، فقد راقب فريق بحثي مجموعة من الطلبة وهم يذاكرون شيئاً مهمًا، ثم لاحظ الفريق البحثي أن الطالب المثالي لم يكن باستطاعته أن يركز على عمل واحد لمدة أكثر من ثلاث إلى خمس دقائق متصلة فقط! وبعد انتهاء فترة المراقبة فحص الفريق المواقع التي زارها هؤلاء الطلبة أثناء تشتتهم عن المذاكرة، فوجدوا أن أكثر موقع كان (فيسبوك). وبمزيد من الفحص تبيّن للفريق أن زيارة الطالب لموقع فيسبوك كان مؤشرًا على تدني المعدل/التقدير التراكمي GPA، بمعنى أن الطالب كلما كان تشتته وتوجهه نحو فيسبوك أكثف، كلما كان تحصيله العلمي والدراسي أدنى.

 

لماذا لا أستطيع التركيز في القراءة أو المذاكرة؟!

في مقالة نُشرت عام 2008 ولاقت رواجًا كبيرًا، كتب نيكولاس كار عنواناً غريبًا لمقاله: "هل يجعلنا جوجل أغبياء؟". أثارت المقالة جدلًا كبيرًا في الإعلام الأمريكي وعلى المدونات الالكترونية كذلك وتمت مناقشة أفكارها على العديد من المنصات الإعلامية. في بداية المقالة يحكي كار: "مثلي مثل كثير من الناس: أصبح الإنترنت هو مصدر المعلومات الأول التي تمر على أذنيّ وعلى عينيّ إلى عقلي. بالتأكيد هناك فوائد كثيرة من الحصول على مخزن ضخم جدًا من المعلومات بطريقة مباشرة، لكن كل شيء يأتي بثمن. تسبب جلوسي على الإنترنت في مشكلة لديّ في التركيز والتأمل"(8).

 

ويستكمل كار: "لم أكن الوحيد بين الناس، فعندما أذكر لأصدقائي أني أعاني من مشكلة في القراءة يخبرني أغلبهم –أو جميعهم أنهم يعانون من تجارب مماثلة. وكلما قضوا وقتاً أكبر على الإنترنت، كلما وجدوا مشقة أصعب في قراءة الكتابات المطوّلة. اعترف أحد أصدقائي أنه توقف عن قراءة الكتب تمامًا رغم أنه كان قارئاً نهمًا للكتب. وكتب صديق آخر أنه يعاني حاليًا من فقدان قدرته على قراءة واستيعاب مقالة مطولة"(9).

 

وفي هذا السياق قامت جامعة لندن بدراسة أُجريت لمدة خمس سنوات تم رصد فيها سلوك الزائرين لموقعين بحثيين اثنين (10)، كشفت الدراسة أن زوار الموقع في العادة يقومون بنشاطٍ سطحي في هذه المواقع، حيث يقرؤون صفحة واحدة أو صفحتين ثم يقفزون من موقع إلى موقع، أحيانًا يقومون بحفظ روابط لمقالات طويلة لكن لا يوجد أي دليل أنهم يرجعون إليها. قال مشرفو الدراسة أن المستخدمين يقومون بزيارة الإنترنت لتجنب القراءة بمعناها التقليدي، لأن مخهم غير مستعد للانخراط في عملية قراءة طويلة تتطلب تركيزًا لا ينقطع لفترة معينة.

 

تستنتج عدة دراسات أن جسمًا أكثر صحة وأكثر ممارسة للرياضة هو أقل تأثرًا بالمشتتات الذهنية
تستنتج عدة دراسات أن جسمًا أكثر صحة وأكثر ممارسة للرياضة هو أقل تأثرًا بالمشتتات الذهنية
 
إحصائيات مقلقة

قد يهوّن بعض الناس من حقيقة الأزمة ويتخيل أن أثر مواقع التواصل على إنتاجية وعقلية الناس هو أمر مبالغ فيه، لذا فإننا لكي نعلم حجم الأزمة التي تواجه جيل الشباب اليوم، علينا أن ننظر إلى بعض الإحصائيات التي تتعلق بالإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي. مثلًا، استنتجت دراسة شملت حوالي 7500 إنسانًا يمتلك هاتفاً ذكيًا أن حوالي 80% من المالكين للهواتف الذكية يبقون على اتصال دائم بالإنترنت طوال اليوم كله إلا ساعتين فقط(11)، وفي دراسة أخرى أُجريت على أكثر من ألف مالك للهواتف الذكية، اعترف 70% منهم أنهم يشعرون بالقلق عندما لا يكونون متصلين بالإنترنت(12). وفي اعتراف عجيب أقرّ أكثر من نصف مالكي الهواتف الذكية أنهم يفضّلون قضاء ليلة في السجن أو الجري في ماراثون على أن يتخلوا عن حساباتهم على موقع فيسبوك أو تويتر(13)! ربما يكون هذا أمرًا جنونيًا، لكن هذا هو ما صرح به المستخدمون لهذه المواقع بالفعل.

 

ماذا نفعل لكي نزيل الآثار السلبية للإنترنت؟!

يبدو إذن أن طبيعة وسائل التواصل الاجتماعي أنها تغيّر من بنية المخ البشري، لما تتسبب فيه من قطع لتركيزنا وتقليل من إنتاجيتنا، فتمنعنا من قراءة الكتب أو من التفوق في دراستنا، بل وتحفز لدينا الكسل والقلق والاكتئاب، إنها كالمنبه الذي يضرب كل دقيقتين من أجل موعد غير مهم. من أجل ذلك كله فإن جيلنا، جيل الإنترنت، عليه أن يقي نفسه من مساوئ هذا التشتت المدمّر، وقد تقدم بعض المتخصصين ببعض النصائح بخصوص تحسين علاقتنا مع وسائل التواصل الاجتماعي لتجسين صحتنا الذهنية والنفسية.

 

على سبيل المثال تقدم فرانسيس بوث حلًا مقترحًا وهو غلق كل المشتتات الالكترونية لمدى نصف ساعة يتدرّب فيها مخنا على التركيز في أمر ما، وبعد النصف ساعة توصي بوث بأن يسجّل الواحد منا مدى سعادته بالتركيز ومدى إنتاجيته في هذه الفترة، وبأن نعاود تكرار التجربة في كل مرة أردنا التركيز فيها في أمر ما(14). كما تدعو بوث إلى محاكاة تجربة "فقاعة التصميم" التي قامت بها شركة توب ليفت ديزاين لتصميم مواقع الإنترنت (15)، حيث يحتاج عمل الشركة في التصميم والبرمجة إلى تركيز المصمم لبضع ساعات في كل جلسة عمل، ومنعًا لتشتيته أو مقاطعته، يقوم المصمم بإعلان أنه سيدخل "فقاعة التصميم" فيغلقون هواتفهم المحمولة، ويسجلون الخروج من كافة وسائل التواصل الاجتماعي، ويغيرون حالتهم على البريد الالكتروني إلى "خارج المكتب" ويضعون سماعات الرأس.

 

أما الكاتب لاري روزن فينصحنا بممارسة الرياضة البدنية لأن لها آثار إيجابية على الصحة الذهنية والنفسية للإنسان تمنع إصابتنا بأعراض القلق والاكتئاب (16). كما أن لها انعكاسًا إيجابيًا على القوى الإدراكية للإنسان، بل أنها تحفز المسار الأكاديمي كذلك (17). وتستنتج عدة دراسات أن جسمًا أكثر صحة وأكثر ممارسة للرياضة هو أقل تأثرًا بالمشتتات الذهنية (18). تعدّ أيضًا مراقبة الساعة من الوسائل الناجعة لإشعارنا بأهمية الوقت في حياتنا ومدى خطورة، لذلك فتحميل التطبيقات التي تساعدنا في معرفة كم استهلكنا من وقتنا اليومي في تطبيق معين على الهاتف الذكي هي خطوة مهمة لإدراك حجم الوقت الضائع في اللاشيء، ففي النهاية كنا تقول فرانسيس بوث: "الإنترنت هو أكبر مستنزف للوقت تم اختراعه في حياتنا"(19).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

(1) فرانسيس بوث، مصيدة التشتت: كيف تركز في فوضى العالم الرقمي، ص/ 11.

(2) Nicholas Carr, (2010), The Shallows: How the Internet is Changing the Way We Read, Think and Remember. London, Atlantic Books.

(3) Ibid.

(4) فرانسيس بوث، مصيدة التشتت، ص/ 54.

(5) http://joekraus.com/were-creating-a-culture-of-distraction 

(6) Larry Rosen, iDisorder: Understanding Our Obsession with Technology and Overcoming  its Hold on Us, (NY: Palgrave Macmillan, 2012).

(7) Adam Gazzaley & Larry D. Rosen, The Distracted Mind: Ancient Brains in a High-Tech World, (USA: MIT Press, 2016), P.124.

(8)   https://www.theatlantic.com/magazine/archive/2008/07/is-google-making-us-stupid/306868/

(9)   https://www.theatlantic.com/magazine/archive/2008/07/is-google-making-us-stupid/306868

(10)                     https://www.theatlantic.com/magazine/archive/2008/07/is-google-making-us-stupid/306868 

(11)                      http://www.marketingprofs.com/charts/2013/10459/7-in10-smartphone-owners-access-facebook-via-device#ixzz2YcSZ35Ep

(12)                      www.huffingtonpost.com/2012/07/30/texting-while-walking_n_1717864.html 

(13)                      http://www.foxbusiness.com/features/2012/08/02/social-media-addiction-is-marketer-best-friend.html 

(14) فرانسيس بوث، مصيدة التشتت.

(15) المرجع نفسه

(16) A. J. Daley, “Exercise Therapy and Mental Health in Clinical Populations: Is Exercise Therapy a Worthwhile Intervention?” Advances in Psychiatric Treatment 8 (2002): 262–270; R. Walsh, “Lifestyle and Mental Health,” American Psychologist 66, no. 7 (2011): 579.

(17) Y. K. Chang, S. Liu, H. H. Yu, and Y. H. Lee, “Effect of Acute Exercise on Executive Function in Children with Attention Deficit Hyperactivity Disorder,” Archives of Clinical Neuropsychology 27, no. 2 (2012): 225–237; C. H. Hillman, M. B. Pontifex, L. B. Raine, D. M. Castelli, E. E. Hall, and A. F. Kramer, “The Effect of Acute Treadmill Walking on Cognitive Control and Academic Achievement in Preadolescent Children,” Neuroscience 159, no. 3 (2009): 1044–1054.

(18) Adam et al, Distracted Mind, P. 204.

(19) مصيدة التشتت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.