شعار قسم مدونات

الوجه الآخر للأمل

blogs عبادة

الأمل فطرة فطر الله تعالى الإنسان عليها، نراها في كل تصرفات الإنسان في الكون، فما بعث الله رسولا إلا وكان الأمل في هداية قومه ماثلاً بين عينيه، وكذلك في حياتنا الدنيا نجد الامل قوة دافعة، تشرح الصدر للعمل وتبعث النشاط في النفس والبدن، تدفع الكسول إلى الجد، والمُجِدّ إلى المداومة، تدفع المخفق إلى تكرار المحاولة، تحفز الناجح إلى مضاعفة الجهد، فان الذي يبعث الطالب إلى الجد أمله في النجاح، والذي يحبب الدواء المرَّ إلى المريض أمله في الشفاء، والذي يدفع المؤمن إلى أن يخالف هواه ويطيع ربه، أمله في رضوانه وجنته، ولولا الأمل لشَقّ علينا العمل.

لكن المتأمل في القران الكريم قد يجد للأمل معنىً آخر، معنىً أقرب للذم منه الى المدح، يجعلنا نعيد ترتيب مفهوم الامل في حياتنا، يقول الله تعالى: "ذَرْهُمْ يَاكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْاَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ" سورة الحجر، الآية 3. إذ لطالما ارتبط الأمل في اذهاننا بصورة جميلة فيها حب كبير للحياة، وكان من الصفات الانسانية السامية التي تعلمنا ان نتحلى بها ونعلمها للناس، فكيف ينقلب الامل علينا ويلهينا عن غاية وجودنا!؟ حقيقة يأتي الجواب في الآية الثانية التي ورد فيها ذكر الامل في القرآن الكريم بقوله تعالى: "وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ اَمَلًا" سورة الكهف، الآية46.

إذا تأملنا في الآية الاولى نجدها تدل على أن الأمل له معنى مشوبا بالذم إلى حد ما، اذ كان لدى المشركين امل واستبشار بالخير وطول الأعمار واستقامة الأحوال فى الدنيا، وألَّا يلقوا في الآخرة إلَّا خيرًا، وهو امل مقرون بالمعصية والجهل لا بالعلم والعمل، ولذلك توعدهم الله تعالى بقوله "فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ"، لكن عندما تعلق الامل بالباقيات الصالحات اقترن بالخير "وَخَيْرٌ اَمَلًا".

الأمل بغير عمل مجرَد أمانٍ كاذبة، ووعود زائفة، وجهل مردود على صاحبه، لا يجني من ورائه إلا تعذيب نفسه وتحطيم قلبه

فالأمل توقُّع للخير ثابت في قلب صاحبه لا يتحوَّل، ومن هنا ذُمَّ صاحب الأمل في الدنيا، ومُدِح صاحب الأمل في الآخرة. فالأمل لابد وأن يتعلق بأمر الطاعة والعمل الصالح، لان الأمل الصحيح قرين اليقظة والتبصر لا مصاحبا للغفلة والتيه، والتسويف وطول الأمل قد يصل إلى حدّ خداع النفس وإلهائها عن واجباتها. في الواقع إن الأمل فطرة راسخة في الإنسان لكنها تحتاج إلى رعاية مستمرة، وتنمية متواصلة، ومراقبة دائمة، حتى لا تنحرف إلى إفراط يقع بالإنسان في طول الأمل والركون إلى الدنيا والخلود، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين: في حب الدنيا وطول الأمل))؛ متفق عليه.

طول الأمل يَشغل عن العمل، ومن ألهاه أمله أخزاه عمله. واستعبدته الدنيا وشغلته حتى يرحلَ عنها من غير عمل صالح، لأنّ طول الأمل يجرّ إلى التّسويف، وتعطيل الصّالحات، وتأخير التّوبة عند عمل السّيّئات، والتماطل في ردّ الحقوق، تجد أحدهم يدرك أن الصلاة فرض عليه لكنه لا يتلزم بها، وإذا سألته لماذا لا تصلي يقول: أريد ذلك ولكن الله لم يهدني بعد! ويُسوّف ويماطل على أمل أن يتوب يوما ما فيسرقه العمر قبل أن يأتي ذلك اليوم، هكذا أشغله طول الأمل وأبعده عن العمل، وأعماه الجهل عن حقيقة ان الله هيأ له اسباب الهداية بان هداه للإسلام، وبين يديه كتاب الله وسنة نبيه تعلمه احكام دينه، وكل ما كان عليه هو العمل بها لينجو، لكنه ركن الى الامل بغير عمل. يقول الحسن البصري رحمه الله: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل".

 

إن الأمل بغير عمل مجرَد أمانٍ كاذبة، ووعود زائفة، وجهل مردود على صاحبه، لا يجني من ورائه إلا تعذيب نفسه وتحطيم قلبه، قال تعالى (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً) النساء 123. إذ لابد أن يكون الامل مقرونا بسنن الله في الكون، من الأخذ بالأسباب المفضية لتحقق المأمول، فهو ليس مجرد كلمة نرددها في داخلنا كلما اشتدت بنا الايام ونقول هناك امل للخلاص، فحقيقة الامل ان يكون مصحوبا بالعمل والصبر، فاذا لم يكن كذلك فانهُ يصبح مجرّد تمني، والتمني هو سلاح العاجز ورأس مال المفلس.

فلا يغتر الإنسان بكثرة الأمل ولا بكثرة الرجاء بالله دون عمل، فالعبد المؤمن يعيش على الخوف والرجاء، فيعمل صالحاً على أمل أن يرحمه ربه ويعفو عنه ويتقبل منه صالحات عمله وقوله، وإن غفل القلب عن ذلك دخل في متاهات الهلاك والبعد عن الله . فمن يأمل في النجاح والتفوق لابد له من الجد والاجتهاد في المذاكرة، ومن يأمل في الغنى يقتصد ويدبر، ومن يأمل في الجنة يعبد الله ولا يشرك به شيئا ويعمر قلبه بالإيمان وجوارحه بالطاعات والصالحات، ومن يأمل السلامة لا يلقي بنفسه الى التهلكة، ومن يأمل الانتصار يعد العدة، يقول الحسن البصري – رحمه الله -: " إن قوما غرتهم الأماني حتى رجوا من الدنيا ولا شيء لهم، وقالوا: نحن نحسن الظن بالله، وكذبوا فلو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل". 

الأمل ملازمٌ للإيمان، فان نقيضه -اليأس- ملازمٌ للكفر، فالمؤمن لا ييأس لأنّه يعيش بفضل الله ورحمته وقدرته سبحانه وتعالى، وأمله ينطلق من عمق مفهوم الإيمان بالله تعالى
الأمل ملازمٌ للإيمان، فان نقيضه -اليأس- ملازمٌ للكفر، فالمؤمن لا ييأس لأنّه يعيش بفضل الله ورحمته وقدرته سبحانه وتعالى، وأمله ينطلق من عمق مفهوم الإيمان بالله تعالى
 

حقيقة إن الإنسان دون الأمل لن يستطيع أن يعيش سوياً ولا أن يُقبِل على الإنجاز والعطاء، فهو أنيس الروح ودواؤها، وبالأمل يستبشر الإنسان الخير بالقادم من الأيام وأن ينال منها ما يخطط له ويسعى إليه من سعادة للنفس وراحتها، لكن دون ان يملأ قلبه منها فيغفل عن ربه والحياة الآخرة، فالأمل السويّ مقرونٌ بالطاعة لله والاخذ بالأسباب، لا بالكسل والجهل والتمني، والمؤمن يضع اسمى آماله في الآخرة ويمنحها النصيب الاكبر من عمله في الدنيا، قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) الكهف: 110.

ان جوهر الأمل هو الإيمان برحمة الله، ذلك المعنى الذي يلقي على روحك السكينة لأنها متصلة بالله، ويؤدي الى انشراح النفس في وقت الضيق والأزمات، بحيث يتعلق القلب بالله وحده ويدعوه حتى تنفرج الأزمة وتنكشف الغمة، بعد العمل بكل ما سخره لك من أسباب الفرج،  ويعطينا القرآن الكريم نموذجاً رائعاً عن الأمل الذي عاشه نبيّ الله يعقوب عليه السلام، فإنّه ورغم طول غيبة يوسف عليه السلام عنه دون أن يعرف شيئاً عن أحواله، ظلّ متمسكاً بحبل الأمل والدعاء الى الله تعالى والسعي للتحقق من حال ابنه، فيرسل أبناءه لتتبع أخباره ويوصيهم بقوله: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) يوسف 87.

 

ولأن الأمل ملازمٌ للإيمان، فان نقيضه -اليأس- ملازمٌ للكفر، فالمؤمن لا ييأس لأنّه يعيش بفضل الله ورحمته وقدرته سبحانه وتعالى، وأمله ينطلق من عمق مفهوم الإيمان بالله تعالى، بما نعتقده من صفات الله القادر، المُعطي، والمجيب. فالمؤمن أوسع الناس أملاً، وأكثرهم تفاؤلاً واستبشاراً، وأبعدهم عن التشاؤم والتبرم والضجر، إذ الإيمان معناه الاعتقاد بقوة عليا تدبر هذا الكون لا يخفى عليها شيء، ولا تعجز عن شيء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.