شعار قسم مدونات

الكاتب بين مطرقة تأثير الهالة وسندان النقد

blogs كتابة

قرأت منذ أيام قصة للشاعر والناقد الفلسطيني فراس حج محمد، ويستدل بها على قتلى الأدب والكتابة، لكنهم قتلى من نوع فريد؛ فهؤلاء يكتبون ولا يجدون صدى لما يسطرونه، وربما يفضي الأمر إلى اليأس واعتزال الكتابة. فريق من هؤلاء الكتّاب يختارون طريقًا مغايرًا، يثبتون أن المجتمع مسكون بعدوى "تأثير الهالة"، وأن خصومة المجتمع لكتاباتهم مردها إلى أنهم مغمورون؛ فإن سُلطِت عليهم الأضواء، أصبحت كتاباتهم "بقدرة قادر" قمة في الإبداع والعمق والتأثير!

 

من أرشيف ذكريات الدراسة بكلية اللغة العربية، يحكي فراس أن صديقًا له كان يقرض الشعر، ولم يجد له جمهورًا في أوساط الكلية ومن ثمَّ الجامعة، ومبعث ذلك أن الناس أسرى الأسماء الكبيرة، أما المغمورون فإن فرصهم مع الأسف محدودة.

 

كان هذا الطالب الشاعر مؤمن بموهبته، وإمعانًا في تأكيد موهبته، ارتأى أن يختبر أذواق الزملاء والأساتذة بالكلية؛ فنشر في مجلة حائط الكلية قصيدة هي بنت فِكرِه، إلا أنه ذيلّها بتوقيع محمود درويش. لاقت القصيدة استحسان الأقاصي والأداني، وضرب الشاب أخماسًا بأسداس، ولا عزاء لأصحاب المواهب عند حضور الأسماء الكبيرة، وهذا يجسد التأثير البالغ للأسماء في دنيا الأدب والثقافة، ويحرم كثيرًا من الموهوبين من الحضور، ولعلنا في هذا الإطار نذكر توقف عادل كامل عن الكتابة، وهو الذي فاز بجوائز تقديرية عديدة وبالمناصفة مع أديب نوبل نجيب محفوظ، لكنه استسلم بعدما بعُدت الصلة بينه وبين الشهرة وتأخرت، ولم يواصل على عكس صاحب نوبل الذي كتب دون اكتراث بتأخر الشهرة أو انتظار وصولها من الأساس.

 

لا تنتظر الثناء على ما تكتب، ولا تتلكأ لتسمع مديحًا من هنا أوهنالك أو هناك، امض وواصل دون تردد؛ فالناس تحكم عليك أحكامًا لا علاقة لها بالإنصاف

الشاعر في مجلة الحائط أراد أن يقطع شكوكه في موهبته، ويفهم هل ركاكة النص ورداءة السبك وكسر الوزن هي السبب أم أن الناس يؤمنون فقط بالأسماء المعروفة؟ وخلص من تجربته إلى أن الناس لن تعترف بك إلا بعد أن تصبح لامعًا، وقبلها فلا تنتظر أن يشجعك أحدهم أو يثني على عملٍ لك مهما بلغ من الجودة والإتقان. شاعر مجلة الحائط لم يأتِ بجديد، وقد سبقه كثيرون من أهل الفكر والأدب، وليس في ذلك انتقاص من قدر هذا الشاعر، لكن المراد أنه أكد على ما سُبق إليه، وتدخل في نطاق تضافر الأدلة. ولعلك سمعت عن المسرح العبث، وزلزال مجلة الكواكب الذي رمى حجرًا في المياه الراكدة، وأشار لخطورة تأثير الهالة على الحياة الأدبية.

 

ظهر مسرح العبث بعد الحرب العالمية الثانية، وازدهر في خمسينيات القرن العشرين، ونظرته تشاؤمية معبرة عن الانكسار الذاتي للشخصية الإنسانية. تأثر مسرح العبث بالفكر الوجودي وكتابات جان بول سارتر وألبير كامو، وله مسميات أخرى مثل المسرح الطليعي، واللامعقول، والتجريب، أو مسرح الضد، ومن رواد هذا المسرح صامويل بيكيت، ويوجين يونسكو، وآرثر أداموف، وفريدريش دورينمات. وقد حاول توفيق الحكيم الكتابة على طريقة مذهب العبث، وكتب مسرحية "يا طالع الشجرة"، ثم تبعه آخرون ينسجون على منواله ويتسيَّمون بسِيمَاه.

 

في بدايات سنة 1963 ادعى أحمد رجب -محرر مجلة الكواكب يومها- أنه ترجم نصًا مسرحيًا عنوانه "الهواء الأسود" لفريدريش دورينمات، وطلب رجب من أربعة نقاد كبار في مصر (عبد الفتاح البارودي، رجاء النقاش، سعد أردش، وعبد القادر القط) تقييم العمل وتقديمه لقراء المجلة. كتب النقاد عصارة خبرتهم في تقييم العمل المسرحي، وأثنوا على براعة دورينمات في الحبكة وانتقاء الألفاظ، وأفرطوا في التقريظ والثناء، ثم جاءت الطامة على صفحات المجلة! كتب المحرر أن المسرحية من تأليفه، ثم سلط مداد قلمه على النقاد؛ فكانت ضربة قاسية وموجعة للنقاد الكبار وبصورة بشعة.

 

اتسع الخرق على الراتق بعد أن بالغ أحمد رجب في طرحه؛ فادعى أنه كتب المسرحية في ساعة واحدة، وأنه تعمد كتابه نصٍ لا رابط بين أجزائه ولا هدف من ورائه، كما أنه لا يهدف لإرساء قيمة أو نقد مثالب مجتمعية أو قيمية أو غيرها! وأن الهدف من ذلك هو إثبات ولع النقاد بعقدة الخواجة، ونشر أحمد رجب تحقيقًا صحفيًا تحت عنوان: "فضيحة الموسم.. أنا المؤلف الأوحد لمسرحية الهواء الأسود". انبرت الأقلام الصحفية تقصف النقاد، ورمى العقاد عن قوسهم وأثنى على شجاعة المحرر، بل ودخل في معركة مع كاتبٍ من سن أحفاده، وهو رجاء النقاش، واعتبر توفيق الحكيم تلك الفضيحة مقلبًا أدبيًا لطيفًا، في حين قال إحسان عبد القدوس: "أتمنى أن يصر النقاد على رأيهم ويرفعوا أحمد رجب إلى منزلة الكتاب العالميين"، وأدلى صلاح عبد الصبور بدلوه قائلًا: "ده أعظم عمل نقدي للنقاد".

 

دافع النقاد عن وجهة نظرهم بأن المسرحية المختلقة ليست كما أوهم محرر الكواكب القراء، لكنها تقليد دقيق لمسرحية (في انتظار غودو) لصمويل بيكيت، ومبنية على فكرة الانتظار، وأنها أقرب إلى الأدب الرمزي العادي منها إلى فن اللامعقول، وأن هذه الفكرة تتردد كثيرًا في الأدب الأوروبي المعاصر، وهي أكثر شيوعًا في أدب الوجوديين. وقال عبد الفتاح البارودي: "إنها فضيحة فنية للتافه الأوحد"، وقال النقاش: "دي فضيحة لكم وليست لنا"، وأصر أردش على جودة العمل وأنه تأثر واضح بالمسرح العالمي ويستحق الإشادة.

 

عاشت الحياة الأدبية على صفيحٍ ساخن بعد "مقلب" أحمد رجب في النقاد الأربعة، وأثيرت أسئلة كثيرة حول ملابسات الحكم على المواهب الشابة، وتقيُّد النقاد إلى درجة ما بالإطراء حد الإفراط على المشاهير من الكتَّاب، والزهد في أعمال جيدة وربما ممتازة للمبتدئين. ونصح عدد من كبار الأدباء الشباب بالكتابة دون توقف، وأن يطوروا من طريقتهم وألا يرضخوا للنقد السلبي أو ييأسوا من تأخر شهرتهم أو نجاحاتهم؛ فالكبار لم يصلوا بسهولة ولم يتوقفوا عن الكتابة، وهذا ما هذب كتاباتهم وأثبت قوة موهبتهم.

 

أفضل العمل أدومه وإن قل؛ فلا تبحث عن مخرج لتتوارى، وابذل نكيثتك وغاية جهدك لتصل إلى حديقة النجاح، والغلبة لمن واصل وصبر

إن كنت على أول الطريق فإليك نصيحة خالصة، لا تنتظر الثناء على ما تكتب، ولا تتلكأ لتسمع مديحًا من هنا أوهنالك أو هناك، امض وواصل دون تردد؛ فالناس تحكم عليك أحكامًا لا علاقة لها بالإنصاف ولا المنطق؛ فلا تقتل موهبتك بالركون إليهم، وكن أحرص الناس على تحسين أسلوبك وتطوير طريقتك، واستشر من تثق في صدق نصيحته ولا تأخذك العزة بالإثم إن صادفت نقدًا صادقًا أو توجيهًا مخلصًا، المهم أن تستمر وألا تُحبط أو تتراجع، وقد أبدت الرغوةُ عن الصريح.

 

كان الكاتب الكبير صاحب قفشات ومقالب أدبية ساخرة، وقد عاود الكرة مرة بعد مرة، وأحدث ضجة في الوسط الأدبي والفني بتقريره عن الهواء الأسود، وقد سبقها بواقعة أخرى كان ضحيتها عدد من الكتَّاب المعروفين؛ فاختار مقالًا قصيرًا وقديمًا لتوفيق الحكيم، وعرضه على عددٍ من الكتاب والصحفيين على أنه بقلم أديبة ناشئة، وطلب منهم التعليق على هذا المقال.

 

قال عباس محمود العقاد: "هذه سطور كاتب في منتصف الطريق يستحق التشجيع"، وقال إحسان عبد القدوس: "أفكار قديمة وأسلوب غير صالح للنشر"، أما أنيس منصور قال: "والله أسلوب مش بطال"، لكن علي حمدي الجمال قال: "صفر على عشرة" أما أحمد بها الدين فقال: "هذا هو أسلوب توفيق الحكيم!". نشر أحمد رجب رأي هؤلاء جميعًا تحت عنوان: "آراء صريحة جدًا في أسلوب توفيق الحكيم".

 

تأثير الهالة أشبه ما يكون -لدى الغالب الأعم من الناس والنقاد- بالأرقام القياسية، ليس من اليسير تجاهلها، وهي صعبة الكسر ويملك أصحابها امتيازات كبيرة. ستشعر بالفخر إذا حققت رقمًا قياسيًا، ولا يمكن تصور شعورك بالمرارة لو سُحِبَ منك هذا الإنجاز دون وجه حق، وأقول ذلك للتنبيه على نقطة مهمة، وهي أن الوصول للرقم القياسي وتأثير الهالة لم يأتِ عفوا صفوا، ويحق لأصحاب الأرقام القياسية أن يفخروا بما قدموه، ولك أن تبذل وسعك وتصرف عنايتك في فنك، ولا تتلهف للشهرة فلها وقتها، وفي ذلك ما يُخرجك عن غيظك ويضعك على جادة الطريق، ولكل مجتهدٍ نصيب؛ فلا تيأس.

 

الكاتب الكبير كان مبتدئًا يوما ما، وحقق نجاحه بمتابعة مشوراه لأنه تابع مسيره، لم يقف طويلًا عند مواقف الخيبة والانكسار، مسألة سيكولوجية تصنع فارقًا بين النجاح والضياع، ومع أنها قد تبدو بسيطة للوهلة الأولى إلا أنها مؤثرة للغاية، وأفضل العمل أدومه وإن قل؛ فلا تبحث عن مخرج لتتوارى، وابذل نكيثتك وغاية جهدك لتصل إلى حديقة النجاح، والغلبة لمن واصل وصبر.

 

برح الخفاء وانكشف الغطاء؛ فإياك النكوص والبكاء، والبحث عن سرابٍ بعد ماء؛ فدونك الجهد والعرق، واطرح التجهم والقلق، فلو صحّ منك الهوى أُرْشِدْتَ للحيل، ومن شواهد النجاح ألا تَمَلَّ العمل، ومن رام أمرًا راش له سهم الأمل، ومن طلب شيئا وجده وعلى الله المُتَّكَل.

 

مَحَضْتُكَ النُّصْحَ عن خُبرٍ وتَجرِبـةٍ واللهُ سُبحانَـهُ الهادي إلى الرَشَدِ

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.