شعار قسم مدونات

رحلتي من الهندسة إلى الشريعة!

blogs مكتبة إسلامية

عندما حصلت على شهادة الدراسة الثانوية – منذ زمن طويل نسبياً – أحاطت بي قيود المجتمع، فالمعدل المرتفع يعني أن يتجه صاحبه لدراسة الطب أو الهندسة، وما شابه ذلك …، كنت وقتها أحب التربية وعلم النفس، لكن أن أتوجه إلى كلية التربية سيشير ذلك إلى أن معدلي منخفض، إضافة إلى عدم اتساع مجالات العمل بعدها، وربما قلة الأجور المحتملة، وكنت أيضاً أحب العلوم الطبيعية وأبدع بها، لكن كلية العلوم – سبحان الله –لم تكن ذات مكانة معتبرة وقتها، ومجالات العمل أيضاً محددة، وكذلك الأجور المحتملة، أما أن أكون في كلية الهندسة أو الطب فإن ذلك يحمل احتراماً مجتمعياً ضمنياً، وربما تتسع مجالات العمل، وربما تزيد فرص الرزق، هكذا كانت الرسائل تصلني من كل جانب، ولما كنت أحب الرسم وأجيده، وأتصف بالتنظيم والترتيب، فكان اختيار الهندسة المعمارية معقولاً حسب ما أقنعت نفسي به.

تناغمت مع جماليات الهندسة المعمارية خلال مرحلة الدراسة، ثم تأقلمت مع الأجواء العملية بعد التخرج، كنت أشعر بالفخر عندما أجد بناءً قد ارتفع في الواقع، بعد أن كان مجرد خيال في ذهني انتقل لمرحلة خطوط خطها قلمي، ثم ترجم لكيان مادي حقيقي، يشغل حيزاً في الفراغ، تراه العيون، يبهج الناظرين، يفيد المنتفعين به، ويبقى شاهداً على الإنجاز، كما كنت أشعر باتساع يحدث في عقلي، وتنظيماً يمس فكري، عندما يتم الجمع بين المعطيات المتفرقة وربما المتنافرة أحياناً، فيتم التأليف بينها وصهرها في بوتقة الوظيفة والمنفعة ضمن قالب من الجمال، وكذلك عندما يبدأ البناء المعماري من المرحلة الصفرية، فيستدعي الخيالات والمعاني والمجردات ليحولها لمباني وموجودات محسوسة.

اليوم إنّي على مشارف رسالة الدكتوراه، التي لا أراها واجباً أو مرحلة مطلوبة فحسب، وإنما أراها تكليفاً ربانياً، ورسالة وواجباً نحو العلم والمجتمع، عساها أن تحقق تلك الرؤية

لكن.. كانت هناك غصة كانت تتسلل إلى قلبي، وغليان يعتلج صدري، نعم.. واحترت في تحليل السبب، تارة كنت أقول لأني أعيش مع الجماد، ورق وحجر، بعد أن كنت أرغب بالتعامل مع البشر، أو مع الظواهر الطبيعية، فأرد على نفسي لكنها أوراق تحوي مخططات ترسم تباشير حركة وحياة، وتتفاعل مع سيكولوجية الأفراد والمجتمعات، فيبرز هاتف يقول لي لكن مقيدات ذلك التفاعل عديدة، منها صاحب العمل بما يحمله من ثقافات، ومنها مدير العمل بما يحمله صلاحيات، ومنها التكلفة التي تحدد المسير. وتارة أرجع سبب تلك الغصة لأجواء العمل التي تفرض ضغطاً لا ينتهي، خاصة عندما تتشابك المشاريع وتزداد، والتي تحتم التعامل مع العمالة في أجواء الإشراف على تنفيذ العمل، والتي تكون كلها من الذكور، وتأثير ذلك التعامل على الخصوصية الأنثوية وخاصة في سن العمل المبكر للخريجة.

وثارت في نفسي عدة تساؤلات: ما هو عمق تأثير التخصص الهندسي في صناعة المجتمع؟ وما هي الحاجة المجتمعية لوجود الأنثى تحديداً في ذلك المجال؟ واستمرت تلك التساؤلات إلى أن وقفت على دراسات تقول أن الطب والهندسة وما شابه هي مهن مهمة ولكنها خدمية، وأن انشغال الأذكياء بها لينشغلوا عن الواقع، بينما تحتل العلوم الإنسانية مركز صناعة الإنسان والمجتمع. وعرفت أيضاً أن الأنثى قد تبدع في بعض التخصصات الهندسية ولكن لن تنقص مقومات المجتمع إذا غابت الأنثى عن الهندسة.. في حين أنه يحتاجها بشدة في مجالات أخرى.. ذلك كله دفعني للاهتمام بالعلوم الإنسانية، مثل علم النفس، الاجتماع، التربية، والشريعة، ووجهني للقراءة الذاتية فيها، وهكذا.. إلى أن ارتفع مستوى ذلك الغليان حتى وصل يوماً لحد دفعني للتوجه نحو التسجيل الرسمي في تخصص منها.

ما زلت أذكر ذلك اليوم تماماً، كنت يومها أعمل في الإشراف على مشروع نادي صحي في فندق مشهور، وكنت مستمتعة في العمل، لكن كان هناك هاتف يلح على مسامع نفسي: وماذا بعد؟ فقلت له: هيا بنا لنحقق ذلك (البعد)، انطلقت للتسجيل في الجامعة بعد طول تفكير ومشاورة، كان يوماً سعيداً.. تبعته أعوام مباركة.. وبفضل الله اجتزت البكالوريوس والماجستير بتقدير امتياز.. وحصلت على الدرجة الأولى على الدفعة فيهما.

اليوم إنّي على مشارف رسالة الدكتوراه، التي لا أراها واجباً أو مرحلة مطلوبة فحسب، وإنما أراها تكليفاً ربانياً، ورسالة وواجباً نحو العلم والمجتمع، عساها أن تحقق تلك الرؤية، وأن ألتقيكم مجدداً أحدثكم عن رحلة العلم والحياة فيها. بلادنا لا ينقصها الأبنية والبنيان، بل إن التسابق في التطاول فيها حميم، بلادنا تحتاج إلى التسابق في بناء الإنسان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.