شعار قسم مدونات

الصومال.. جدلية الهوية والانتماء

blogs الصومال

تشكل قضية الهوية والانتماء حيزا كبيرا من الاهتمام والنقاشات الحادَة بين المثقفين والنخب الصومالية، إذ تطرح أسئلة عديدة حول هوية الصومال، هل هي عربية أم إفريقية، وما هو الانتماء الحقيقي للشعب الصومالي، وينقسم الشارع والأوساط الثقافية في هذه المسألة حيث يرى قسم كبير من مثقفي البلد أن الشعب الصومالي ينتمي إلى العروبة والثقافة العربية بينما في الجانب الآخرون يجادل كثير من المثقفين أن الانتماء الحقيقي للصوماليين هو الانتماء الإفريقي مما يحمل في طياته الكثير من المتاعب التي أرقت المجتمع الصومالي.

ويساهم موقع الصومال الاستراتيجي وكونه جسراً للتواصل العربي والإفريقي في استمرارية جدلية الهوية بين الانتماء العربي والإفريقي، ويربط الشعب الصومالي بشعوب المنطقة العربية والقارة الإفريقية روابط قديمة وعريقة تاريخية وجغرافية، حيث أن الصومال يرجع تاريخه إلى مئات آلاف السنين ووجود حضارات مزدوجة أفريقية وعربية، مما مزج التداخل بين الشعبين العربي والإفريقي، لذا تشكل هذه القضية حيزا كبيرا من النقاش والآراء ويتكرر السؤال الرئيس هل ينتمي الصومال إلى الهوية العربية أم الإفريقية أم أنهما مزيج من الهويتين العربية والإفريقية.

ويطرح التساؤل الرئيس في الأوساط الثقافية والنخبوية الصومالية وهو إذا كان المجتمع الصومالي متجانس في كل عناصر الهوية الأساسية من الدين والتاريخ واللغة والثقافة والعرق فلماذا لم يحدد بعد هوية الصومال، ولماذا يحتدم النقاش الحاد حول هوية الصوماليين وانتمائهم العربي والإفريقي؟

للغة العربية مكانتها الكبيرة في أوساط المجتمع الصومالي، وتنشر وبصورة كبيرة في المساجد والحلقات العلمية والخلاوي القرآنية التي يربى عليها الطفل الصومالي بالأبجدية العربية

يرى كثير من الصوماليين أنهم ينتمون إلى الهوية العربية، مستدلين بالاعتقاد السائد لدى الصوماليين بالانتماء العربي، إذ أن معظم القبائل الصومالية تُرجِعُ أصولها إلى القبائل العربية، ويتفاخر الصوماليون برجوع نسبهم إلى القبائل العربية وخاصة إلى بني هاشم أسرة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذ يرجع ادعاء معظم القبائل الصومالية العرق العربي إلى حبهم الشديد للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وأل بيته الطيبين، إضافة إلى التفاخر والهجو الذي كان موجودا في داخل المجتمع الصومالي البدوي الذي كان يمدح ويذم القبائل حسب النسب والحسب وشرف العرق والانتماء.

ولا ننسى أيضا أن قبائل عربية كبيرة عاشت في الصومال وبعضها حكمت على ربوع الصومال عدة قرون حيث واصلت الأفواج العربية المهاجرة المتتابعة رحلاتها إلى الساحل الصومالي، خاصة في العصر الإسلامي الأول، مما أضفى على المشهد الصومالي طابعا عربيا وإسلاميا. ومنذ ذلك التاريخ أصبح التداخل العربي الإسلامي مع سكان القرن الإفريقي شيئا ملموسا وواقعيا، وتمكنوا من نشر الدين الإسلامي وتشييد المدن والممالك والحضارات في القرن الإفريقي التي مازالت أطلالها باقية على السواحل الصومالية وأثروا على السحنات واللغات والثقافة والتركيبة السكانية، وازدهرت العلاقات العربية مع الصوماليين ليحمل الصوماليون راية الإسلام في القرن الإفريقي منذ بزوغ فجر الإسلام.

وللغة العربية مكانتها الكبيرة في أوساط المجتمع الصومالي، وتنشر وبصورة كبيرة في المساجد والحلقات العلمية والخلاوي القرآنية التي يربى عليها الطفل الصومالي بالأبجدية العربية منذ نعومة أظفاره مما ساهم في تعلم الصوماليين للغة العربية وحفظهم للشعر والأدب العربي وحفظ المتون في المجالات الشرعية المكتوبة باللغة العربية.

وكانت اللغة العربية هي اللغة الرسمية إلى جانب الصومالية دوما في التخاطب والمراسلات وتوثيق العقود وكتابة التاريخ والأدب وبث روح الوطنية في قلوب الشعب الصومالي قبل الاستعمار وبعد الاستقلال، وإن كان الاستعمار الأوروبي حاول إبعاد اللغة العربية عن السياسة والثقافة الصومالية مدركا بأنها ترتبط بحب الشعب الصومالي للدين الإسلامي لكونها لغة القرآن والدين الإسلامي، إلا العلماء والزعماء والمناضلين الصوماليين لم يقبلوا المساعي الاستعمارية لطمس الهوية الإسلامية للشعب الصومالي ولتمسكه باللغة العربية حيث حفظت العربية مكانتها المرموقة بين الصوماليين الحاملين للواء التوحيد والإسلام في القرن الإفريقي .

وبما أن اللغة الصومالية لم تدون بعد في ذاك الزمن فإنهم كانوا يستخدمون اللغة العربية كلغة رسمية لهم لانتشارها الواسع في جميع المناطق الصومالية، وبعد ذاك بدأت عملية استعمال كتابة اللغة الصومالية بالحرف العربي فكانت المراسلات تكتب اللغة الصومالية بالحرف العربي إذ كان الصوماليون يرون أنهم جزء لا يتجزأ من الأمة العربية ولم يستطع الاستعمار الأوروبي فرض استعمال الأبجدية اللاتينية خلال سيطرته على المناطق الصومالية كما لم تستطع الحكومات المدنية الصومالية اتخاذ قرار رسمي حول مسألة الأبجدية نظرا لتضارب الآراء والمواقف.

إلا أنه وبعد قيام الحكم العسكري وتولي الرئيس الصومالي الاسبق الجنرال محمد سياد بري مقاليد الحكم في الصومال عن طريق انقلاب عسكري عام 1969م اطاح بالحكومة المدنية الصومالية وضع سياد بري ضمن اجندته بندا يتعلق بحسم مسألة الابجدية سعيا منه لترسيخ هوية صومالية ثورية.

وفي خطوة اعتبرها الكثير من المثقفين ابتعاد الصومال عن عمقه العربي والثقافي قرر نظام محمد سياد بري كتابة ابجدية اللغة الصومالية بالحرف اللاتيني ليعلن الصومال الفراق التام مع الهوية العربية، وإذ تمت هذه العملية بغير رضا تام من الشعب الصومالي ونضال علماء ومفكريه من أجل كتابة اللغة الصومالية بالحرف العربي لكن الصومال وبهذه الخطوة التي ضربت الحراك الثقافي العربي في الصومال ضربة موجعة بل قاسية ومميته ابتعد كثيرا عن الهوية العربية.

إلا أنه ورغم هذه الخطوة التي باعدت بين الصومال ومحيطه العربي إلا أن حكومة سياد بري قررت في العام 1974م الانضمام إلى جامعة الدول العربية بعد أن رأى سياد بري ان الهوية العربية هي الأقرب للإنسان الصومالي، ليصبح الصومال الدولة العربية الوحيدة التي لا تنطق باللغة العربية كلغة أولى لها ولا تستعمل الأبجدية العربية رسميا في كتاباتها في خطوة أوضحت مدى تخبط النظام العسكري في أخذ القرارات المصيرية للأمة الصومالية.

وفي المقابل من يُرجٍح الانتماء الأفريقي للصومال يُرجِعُ أصل الصوماليين إلى السلالة الكوشتية والتي عاشت في إفريقيا منذ عشرات القرون، نظرا لعامل السمات والسحنات المشتركة بين هذه القوميات والصوماليين، وانتماء اللغة الصومالية إلى عائلة اللغة الكوشتية. من يحمل النظرة الأفريقانية الصومالية يرى أن الانضمام الصومالي للجامعة العربية كان لدوافع سياسية وجيوبولوتيكية، ويتساءل البعض لماذا يُصِرُّ الصوماليون على انتمائهم العربي وإن كان نَسَبِياً عتيقاً؟ مع أنَّ العرب الحاليين "يأنفون منهم ويدفعونهم بعيداً"، في ذات الوقت الذي يُرى مسلكهم ذاك "فراراً من إفريقيَّتهم الصريحة.

والمعروف أن ملامح الإنسان الصومالي هي ملامح فاتحة يتمتع بشعر ليس أجعد وبشرة فاتحة وليست داكنة أو مظلمة مثل بقية الافارقة شأنه شأن القوميات الحامية الأخرى في منطقة القرن الإفريقي مثل العفر والاوروموا. وبالنظر لشعوب العالم فإن الإنسان الصومالي هو إنسان زنجي أفريقي ينتمي إلى السلالة الإفريقية، وهذا هو التوصيف الصحيح للأمة الصومالية أننا أمة سوداء تعيش في القارة الإفريقية.

الصومال وبحكم موقعه الاستراتيجي وتمتعه بعلاقات وروابط جغرافية وتاريخية مشتركة مع الأمة العربية والإفريقية بإمكانه أن يكون نقطة التقاء وانصهار العلاقتين العربية والأفريقية
الصومال وبحكم موقعه الاستراتيجي وتمتعه بعلاقات وروابط جغرافية وتاريخية مشتركة مع الأمة العربية والإفريقية بإمكانه أن يكون نقطة التقاء وانصهار العلاقتين العربية والأفريقية
 

وتوجد في الصومال قبائل تنتمي إلى العرق الزنجي وهي قبائل البانتو (المعروفة لدى الصوماليين بقبائل الجرير)، وتسكن هذه القبائل على أراضي شاسعة من المناطق الصومالية وخاصة على ضفاف نهري شبيلي وجوبا في الصومال. قبائل البانتو في الصومال تتعرض للاحتقار والنظرة الدنيوية نظرا لتفاخر القبائل الصومالية بالانتماء العربي عن طريق الأساطير الوهمية وحبهم الشديد للنبي صلى الله عليه وسلم ونظرتهم الحقيرة للإفريقيانية ورفضهم للانتماء إلى سلالة الزنوج السود أو البانتو في إفريقيا.

يعيش الشعب الصومالي جدلية الهوية مع نفسه ومحيطه العربي والإفريقي، وأضرت به أكثر مما نفعته ازدواجية الانتماء العربي والإفريقي، ويرى الأفارقة الصوماليين وكأنهم يتنصلون من الجسم الإفريقي ويلتصقون بالعروبة بينما في المقابل لم يقبل العرب عروبة الصوماليين وثقافتهم وإن قبلوهم سياسيا مما أضاع الصوماليين لاعتبار كل من الهويتين للصومال إنه يميل إلى الطرف الآخر.

وساهم غياب القيادة الواعية ووقوع الصومال في دوامة الحرب الأهلية في عدم الاستفادة من جمع الهويتين في آن واحد، وتأطير الفكرة القادرة على دمج الهويتين للصومال وأنه يقع بين تيارين وأمتين، وإن الصومال يشترك مع الأمة العربية في العقيدة والروابط الجغرافية والتاريخية والثقافية المشتركة في حين يشترك مع الأمة الأفريقية بالتقاليد والعادات والتاريخ والجغرافيا والملامح والسحنات والمصير المشترك.

وفي الأخير يجب أن ننظر إلى الصومال وأنه حالة فريدة من نوعه يستطيع الجمع بين الثقافتين والهويتين العربية والأفريقية، وأن الصومال وبحكم موقعه الاستراتيجي وتمتعه بعلاقات وروابط جغرافية وتاريخية مشتركة مع الأمة العربية والإفريقية بإمكانه أن يكون نقطة التقاء وانصهار العلاقتين العربية والأفريقية، وأن يكون رائدا في مجال التقارب الأفروعربي وعلى الصومال أن يحافظ على هويته العربية إلى جانب هويته الإفريقية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.