شعار قسم مدونات

صناعة اليأس.. هكذا يدفعوننا للكفر بالأوطان

مدونات - الفقر مصر أسى هم رجل حزين فقراء

وأنتَ تحاول جاهداً بكلِّ ما أوتيتَ من صبْرٍ وأناة، وبكلِّ ما تتزوّد به من دراية وطاقة، من أجل أن تسْتوضح أو من أجل أن تضع مسارَ المجتمع الذي تعيش فيه، تحت مجهر البحث عن حقيقة فعله وتفاعله ثقافيّاً.. وعن حقيقة مدّه وجزره اجتماعيّا.. وعن حقيقة نموّه أو كساده اقتصاديّا، وعن حقيقة نهجه وسلوكه سياسيّا، إلاّ أنكَ وفي آخر المطاف وبكلِّ تأكيد ستكـتشف أنّك أرضيّة تحتها لغْم خطير بل وعن سمّ زعاف يسري بكلّ أرْيحية، ويتبجّح بكلّ عنْتريّة داخل شرايين هذه الحلقات المذكورة آنفاً: وما هذا اللّغم أو ذاك السّم! ما هو إلاّ فيروس فتّاك اسمه (الفكر العدميّ) حيث تظافرَتْ مع الأسف الشديد عوامل داخليّة وأمْلتْه ظروف خارجيّة على ظهوره وانتشاره بصورة أو بأخرى وعلى نطاق واسع داخل مجتمعاتنا العربية عمْداً وترصّداً مع سبق الإصرار.

وبعيداً عن لغة الأرقام والإحصائيات فقد بات من البديهيات ومن المسّلمات أنّ السواد الأعظم من الشباب ذكورا وإناثا قدْ نال منهم هذا (الفكر العدميّ) نصيب الأسد فالصورة النّمطيّة لمجتمعاتهم التي يعيشون أو يحاولون بالكاد أن يتعايشوا معها ما هي إلا صورة فسيفسائيّة يتصدّر تلاوينها كلّ ما هو رمادي وما الطلاء الوردي سوى استهلاك مرحلي لتمرير ما يجب تمريره داخليّاً أو إقصاء ما يجب إقصاؤه استجابةً لإملاءات خارجية وتوصيات فوْقِيّة وهنا مربط الفرس: فالتبعيّة أو تقاطع عنصر العامل الداخلي مع العامل الخارجي هو الذي أوْجد حقيقةً تلك التربة المناسبة وذلك المناخ الملائم لمعضلة فيروس (الفكر العدمي) والذي عند معاينته تمحيصاً وتشريحاً سوف تستخلص المعادلة وفق القاعدة التالية:

بات مفهوم الوطن عند شباب المجتمع العربي مفهوما محنّطاً بعد اختطافه من طرف أقليّة من المنتفعين المتستّرين بسياج القانون وبمؤسّسات سياديّة مّما خلق فجوة مرعبة من انعدام الثقة في صفوف المواطنين بصفة عامّة

ميلاد خليّة تحمل نواة اسمها (التّذمر) تؤدّي إلى إفراز عنصر (اللامبالاة) والتي بدوها ستكون هي المسؤولة عن تراكمات لعُقد نفسية مستعصية أخطرها (اليأس) (الضغينة) (التعصّب). ولتقريب الفهم أكثر نأخذ مثال الانتخابات في أوطاننا العربية حيث بات (العزوف) ذلك العبْء الثقيل الذي يؤرّق صنّاع القرار السياسي الذين وبمجرد ما ينتهون من طبخ وتحديد الملامح المقبلة للخريطة السياسية وفق ما يسمى ب (اللعبة الديموقراطية) يفاجئهم موقف (عدمي) يأخذ شكل العزوف وكأن لسان حاله يقول لهم: لسنا في حاجةٍ إلى طبيخكم النيّء فاللهم الجوع السياسي ولا الإسهال السّياسوي!

  

ولذلك نجد أن كثيراً من الأحزاب وخصوصا منها الأحزاب التاريخيّة أو التقليدية في الوطن العربي بدأت تفقد توهّجها السياسي وبريقها الحزبي حيث بات برنامجها الذي به تدشّن حملاتها الانتخابية مجرّد فقّاعة خاوية الوفاض مهيضة الجناح وبالتالي سقط خطابها السياسي سقوطا مدويّاً بعد أن تأكّد للقاصي والدّاني أنّ هذه الأحزاب تحوّلت إلى مجرّد دكاكين تستجْدي ليس فقط عطف أنظمتها المحليّة للإبقاء على دورها السياسي المُقنّع بل بدأنا نلاحظ بعض الأمناء العامّون لهذه الأحزاب يبحثون عن تزكية سياسية في بعض عواصم العالم ذات التأثير المباشر للتدخل لدى أنظمتها حتّى لا تُحرم من نصيب (الكعكة الديموقراطيّة) في حين أن هذه الأنظمة بدأت ترى في الأحزاب الإدارية تلك الأداة الطّيّعة والبديل الرسمي أمام كارثة (العزوف) حيث تتجاوب تلقائيّا وإعلاميّا مع نسبة المشاركة المفبركة التي سيُعلن عنها لاحقاً للحفاظ على ماء الوجه إقليميّا ودوليّا أمّا محليّاً فصنّاع المطبخ للقرار السياسي باتوا متأكدين أن شريحة لا يستهان بها من الناس قد كفروا بالعملية السياسية من ألفِها إلى يائها.

نعم هذا غيض من فيض والأمثلة لا تُعدّ ولا تحصى وجميعها يؤكّد أنّ الخطاب السياسي في الوطن العربي تحوّل إلى مجرّد (عبث سياسي) من رماده انبعث هذا (القمقم العدمي) والذي مع مرور الوقت وفي غياب خطاب حقيقي وعقلاني يأخذ بعين الاعتبار قدسية المصلحة العامة بدون لفّ أو دوران فإن الوضع سيزيد استفحالا قد يصيب مفهوم (الهويّة) و(المواطنة) بانتكاسة لا تقوم لها قائمة وفق ما يسمّى: ب (العدميّة الارتكاسيّة Le nihiisme reactif).. حيث مثلاً بات مفهوم الوطن عند شريحة لا يستهان بها من شباب المجتمع العربي: بات مفهوما محنّطاً بعد اختطافه من طرف أقليّة من المنتفعين المتستّرين تارة بسياج القانون وتارة بمؤسّسات سياديّة مّما خلق فجوة مرعبة من انعدام الثقة في صفوف المواطنين بصفة عامّة. وصلةً بالموضوع فإنّ الخطاب الديني (غير البريء) والذي أصبح مطلباً خارجيّاً سيكون بحول الله محور المقالة اللاحقة فهو الآخر لا يخلو من تداعيات خطيرة وإسقاطات مثيرة دفعت بالكثيرين إلى اعتناق ما يسمّى: ب "العدميّة السلبية Le nihilisme negative" وهو ما سنناقشه موضوعيّا في الفترة القادمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.