شعار قسم مدونات

خذ العفو وأمر بالعرف

blogs ضحية حزن

إنّ في حياتنا أمورًا كثيرة، تكاد تدهسُ ما تبقّى منّا، من مشاعرنا، كصفعات متتالية من الخذلان وانتهاك ما تبقّى من إنسانيتنا، تجعلنا نخجل فنتغاضى عن كل هذا، والمطلوب أن نقابلها بالغفران! فلو تمكن كلٌّ منّا من التّحكم في غضبه وانفعالاته تجاه الآخر، لما تخاصم الأخ مع أخيه، ولما احتلت الجرائم والانتحارات وتجارة الأرواح البشرية الصفحات الأولى من الجرائد، ولما حاول مريض السرطان الثأر من خلاياه… لو استطعنا ربط كل هذا ببعضه لوجدنا ما يثير المشكلة حقيقةً هو عدم قدرتنا على الغفران!

فعندما نواجه صراعتنا اليوميّة مع هؤلاء، لا نعرف ما هو الحل الأمثل للتعايش معهم، ماهي الطريقة التي لابدّ أن نتبعها معهم… لذا كان من الضروري يا صديقي أن تعفو وتصفح مهما بلغ الأمر من السّوء، مهما اضطررت لمواجهة كل ذلك الغضب الذي يجتاحُ دواخلك، فأحيانًا يكون الغفران هو النافذة الوحيدة التي لابد أن نرى الناس منها، فلو لم يغفر يوسف لإخوته لما ظلت قصّته أحسن القصص، ولو لم يغفر رسول الله لكفار مكة لما انتشرت الدّعوة مُضاعفة عن أثرها، فلو فكرت بالمنطق ستجد أنّ الثأر لا قيمة له وأن الناس يثأرون لمجرّد إطفاء ثورة الغضب بداخلهم، لإشباع وحش الأنا فيهم، لكي يشعروا أنّهم لم يخسروا شيئًا، لكن الحقيقة هي أنّ لا شيء ملموس أو واقعيّ فعلاً يُبرر كل تلك التصرّفات، كونك تقابل الإساءة بالإساءة، طالما أنّك في النّهاية لن تحصد شيئًا مهما فعلت، لكنّ الطمع في رضا الله ومحاولة التحكّم في الذات المتقلبة وترك الشيطان بأهواله وإبعاده عن قرارة نفسك يجعلك تحسم الأمر وتتّخذُ الغفران كوسيلة لفضّ الصراع الذي يحدث بداخلك.

ثمّ إنّ صفعات الخذلان التي يعطيها لنا هؤلاء، وشعورنا بالذنب لكوننا كنّا صالحين معهم، ما هي إلاّ مشاعر لا قيمة لها يا صديقي، فعندما تدور الحياة بسلوكها الطبيعي وتتشبه الوجوه وتكرر المواقف لا أنصحك بمٌحاولة ردّ خذلانهم لك بخذلانٍ مُشابه أبدًا، بل عاملهم بمثل ما كنت تتمنّى أن يعاملوك، فالدروس التي نكتسبها منهم هديّة لم نتوقّعها جاءتنا منهم من غير موعد، لكن أهم درسٍ يُمكن أن تناله أنه إذا كان الشيء لله ومن لله فعليك أن لا تُغرق نفسك في التفكير به، وأن لا تُحاول إثبات ذاتك عليه، فكل الأشياء ستأتي وترحل من تلقاء نفسها لذا لا داعي لإثبات وحشِ "الأنا" في صراعاتٍ لا قيمة لها، صراعاتٍ لا هدف لها سوى محاولة القضاءِ على الآخر وطمسه.

النُّضج لا يأتي بكبر السن، ولا حتى بشيخ الجسد ولا بتغيير لون الشعر، ولا بتفلسفٍ أثناء الحوار، ولا حتّى بعدم تحكّمٍ في الأعصاب.. وإنّما يرتبط بمرور الأوغاد في حياتنا فنحن مدينون لهو

ولكم من المُحزن يا صديقي أن تقلل من ذاتك وتنتهك حقوقك الشخصيّة نتيجة لعفوك المتزايد وتنسى أنّ لك حقوقك كما للآخرين، فالمطالبة بالمغفرة ليست أن تبجّل كرامة الآخرين على كرامتك، ونسيان أنك تتأذى كما يتأذى الآخر ولعل رسول الله أوضح ذلك قائلاً: "لا ينبغِي للمؤمنِ أن يُذلَّ نفسَه، قالوا وكيف يُذلُّ نفسَه؟ قال: "يتعرَّضُ من البلاءِ لمَا لا يطيقُ"، فالغرض الرئيسي من الغفران، هو الإصلاح فإذا تحوّل إلى إفساد وإنهاكٍ لما تبقّى من روحك، فالأولى لك أن ترحل على الفور، فعلى الرغم من أنّ ما كلّ ما نُحاول أن نُعمّره داخل القلوب يقومون بنكسِه هم بسوء ظنّهم وجزعهم، إلا أنه من الضروري أن ننأى بذواتنا ونحترم حقوقها كما نحترم الآخرين. وما من شيءٍ أشد مرارة من أولئك الذين لا يغفرون لذواتهم، يعاقبونها بأبشع العواقب يجلدونها طوال الليل، فتجد الواحد منّا يهمسُ لنفسه: كان عليّ أن أفعل كذا.. ولابد أن أوجّه كذا.. كان ضروريٌّ أن أذهب للتّخلص من كذا، وغيرها من عبارات جلد الذّات!

هي دائرة كبيرة من اللوم والعتاب على لا شيء، لأنّها لا تجلبُ سوى تأنيب الضّمير والتقليل من شأن ذاتك، لذا هوّن على نفسِكَ يا صديقي، فكلُّ ما دون الجنّة دون، وكل ما مرّ كان لابد أن يمرّ وكل من خذلك قد قٌدّر له أن يخذلك، تعلم يا صديقي أنّ النُّضج لا يأتي بكبر السن، ولا حتى بشيخ الجسد ولا بتغيير لون الشعر، ولا بتفلسفٍ أثناء الحوار، ولا حتّى بعدم تحكّمٍ في الأعصاب.. وإنّما يرتبط بمرور الأوغاد في حياتنا فنحن مدينون لهم، لأنّهم هم من غيّروا نظرتنا واستيعابنا للحياة، هم من جعلونا أقوى وأنضج، هم من يستحقون الوسم في نهاية الرحلة. ولربما كان الخطأ الوحيد في إدراكِ بأن الوقت مرتبط بوجودهم والحياة رحلتها تتعطل في عدم استنادنا عليهم، لابد دائمًا وأبدًا أن نشكر هؤلاء الأوغاد على قُبحهم، لذا هوّن على نفسِك، فكلما مرت الأيام ستعلم أنّ غُفرانك لذاتك هي نافذتك الوحيدة للنجاة من شر البشر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.