شعار قسم مدونات

زمن غير ليبرالي.. كيف أسقطت الشعبوية أحلام التنوير؟

blogs مجتمع

هناك صورة ذاتية فلسفية في قلب مفاهِيم العالم الغربي، تلك الصورة: الفردانيّة الليبراليّة، يرى العقلُ الغربي أن المجتمع هو مجرد تجمع للأفراد. منذ عصر التنوير، تحديداً، تميلُ العقليات الغربيّة إلى وضعِ الفرد في موضِعٍ حقوقي، لزيادة مقاييس السيادة، في الواقع، إن تقدم المجتمع الغربي، وتالياً فضاء العولمة، في السياسة، والاقتصاد، والحريات، يمكنُ تتبعهُ مباشرةً: تشكلُ قُدسية الفرد، الأساسَ الفلسفيّ الذي تطورَ علَيهِ مسارُ الديمقراطيةِ الليبرالية برمته. لكن، ومنذُ فترةٍ طويلة، ظَهَر توترٌ بين الصورة الذاتية الفلسفية للعالم الغربي ذات التوجهِ الذاتيّ، والصورة الثقافية الذاتية للمجتمعات الغربية ومجموعاتها الفرعية، والتي كانت راسيّةً في الهويات الجماعية القائمة على "العرق والدين والطبقة".

 
تستمرُ المبادئ الليبرالية في مواجهةِ هذه السرديات المتنافسة للهوية اليوم، في هذه المعركة السردية، تناضلُ روايةُ الفرد من أجل الانتصار على هذه الأوصاف المتنافسة للواقع الاجتماعي والوكالة الأخلاقية. هل يمكن للسرديّة الليبرالية أن تَخَلَّق بديلاً لكل الروايات القائمة على الهوية؟ أم يجب أن تجد روحَ الفردية دائما مكانا للإقامة في إطار الهويات الثقافية الموجودة مسبقاً، والتي تمتدُ قصصها وذاكرتها إلى ما هو أبعدُ من عصر التنوير؟ في حين أن العديد من عناصرها يمكن اكتشافهُ في عصور ما قبل التنوير (وفي أجزاء أخرى من العالم) فقد نضجتْ الفردية كفكرة خلال الفترة المُبكرة من عصر التنوير في أوروبا الوسطى والغربية، وفي الأمريكتين – لا سيما في إنجلترا وفي النهاية في الولايات المتحدة- برزتْ كجوهر ما نُسميه اليوم الليبرالية الكلاسيكية، شهد عصر التنوير تحولاً في التاريخ الأوروبي.

لقد واجهتْ الهيمنة الكنسية الأرستقراطية والملكية في أوروبا تحدّي حركة فلسفية جديدة دافعتْ عن حقوق الفرد. في مقالتهِ الثانية عن الحكم المدني عام 1689، يجادلُ جون لوكْ قائلاً: “إن كُل البشر، متساوون ومستقلون، لا ينبغي لأحد أن يؤذي الآخرين في حريتهم أو ممتلكاتهم". تأكيدات لوك كانت مماثلةَ المدلولات من مؤسسي أمريكا. تكررتْ أفكار لوك لدى توماس جيفرسونْ، الذي كتبَ أهم البيانات الليبرالية في إعلان الاستقلال. ترجعُ قصة صعود الفردانية في الضمير الغربي إلى الإصلاح البروتستانتي، عندما أكد مارتن لوثر على ضرورة الفرد، لإقامة علاقة مع الإله، دون الحاجة إلى شفاعة الكنيسة وبيروقراطيتها.
 

تكمنُ السيادة الفردية في صميمِ المنظور الليبرالي، الذي يمنحُ الفرد حقهُ في التعبيِر دون قيود، وقبلهُ والتفكير بحرّيّة، في هذه النظرة المعولمة، قد تسود حقوق الفرد ضد إرادة الأغلبية

وقد شددتْ التقاليد الفكرية في اليونان القديمة على الفكرِ التحليليّ، والذي يمكن تعريفهُ على أنه فصل الكائن عن سياقه، وميلٌ للتركيز على سماتِ الكائنِ من أجل تعيينهِ إلى فئات، وتفضيلُ استخدام القواعد حول الفئات لشرح وتوقع سلوك الكائن. دياناتُ شرقِ آسيا مثل الطاوية والبوذية الصينية والكونفوشية في التحليل هي أكثر شمولية في الشخصية، وتتميز بتوجه إلى السياق أو المجال ككل، بما في ذلك الاهتمام بالعلاقات بين الكائن البؤري والحقل، وتفضيل شرح الأحداث والتنبؤ بها على أساس هذه العلاقات.

  
هناك أدلة تثبت أن التجربة الثقافية تؤثر على نهجنا المعرفي لرؤية العالم. هل من العجب أن التجربة الثقافية قد يكون لها تأثير قوي على تصرفاتنا الأيديولوجية أيضا؟ تكمنُ السيادة الفردية في صميمِ المنظور الليبرالي، الذي يمنحُ الفرد حقهُ في التعبيِر دون قيود، وقبلهُ والتفكير بحرّيّة، في هذه النظرة المعولمة، قد تسود حقوق الفرد ضد إرادة الأغلبية. في عصرنا هذا، تتناقضُ الليبرالية مع التقدمية المدعومة بشكلٍ واضح من سياساتِ الهوية التي ربطتْ العديد من القبائل الثقافية المختلفة في الغرب في تحالفٍ كبير ضد القوى الثقافية، يميلُ السياسي اليساري المتجذرُ في سياسة الهوية إلى أن يكون أكثر جماعية، للتأكيد على حق الفرد في الكلام والتفكير بحرية، وإخضاعِ تلك الحقوق لمصالحِ التسلسل الهرمي الأخلاقي، حيث تتمتعُ المجموعات بامتياز في حرية التفكير.

فَيَكُونُ التحدثُ بما يتناسبُ مع درجةِ الاضطهاد التي عانوا منها تقليدياً على أيدي هياكل القوى الغربية.
على الرغم من أن التقاليد الليبرالية قد تم تنقيحُها في المجتمع الغربي في القرن السابع عشر، وكانت نتاجَ تجاربَ ثقافية، مع ذلك، فإن الإقناع الحدسيّ للتقاطع، وسياسات الهوية يكمنُ في حقيقةِ أنها تستندُ إلى افتراضاتٍ اجتماعية ترتبط بتجارب الناس. النقدُ التقدمي للمجتمع الغربي إنما هو مبني على الظلم وعدم المساواة. لذلك يجب على المظلومين وحلفائهم أن يتحدوا معاً لتحدي هذه الهياكل.

بالنسبة للعديدين فإن هذه الحقائق قديمة بقدر ما هي بديهية: يشهدُ عليها، مائةُ عام من الفصل العنصري، ومائتي عام من الاستغلال ما بعد الصناعي للعمالة، وما يقربُ من المائتي وخمسين عاماً من العبودية الأفريقية، وأربعمائة عام من الإبادة الجماعية للأميركيين الأصليين، وخمس مئة عام من الاستعمار وبتاريخٍ سحيق من إخضاع النساء، طوال هذه الأزمنة، كان العمل الجماعي – سواءَ كان حرباً أو عصياناً مدنياً أو نشاطاً – استجابةً دائمةً ضد القمع الجماعي.

لقد تم التخلصُ من اللُب الليبرالي الذي طالما استمرَ بالنضال من أجل الحرية والحقوق المتساوية، في الغرب، إلى حد ما، مما يدعي أنه اليسار اليوم. ويركز الخطاب التقدمي بشكل أكبر على حرية نمط الحياة والمساواة في النتائج أكثر مما كان عليه في الماضي، وتحّول احتضانه التقليدي للنشاط الجماعي إلى احتضان أكبر للهوية الجماعية، على أساس السيادة الفردية. يقلقُ الليبراليون من صعود سياسة الهوية، في الثقافة المعاصرة، ويعتبرون هذا نتيجةً لتفككِ سياسة أوسع، تقوم على التضامن العالمي، مع هوية الأمة.

القيم اليبرالية تربط بين المخاوف تجاه البشرية وتطلعاتنا إلى الفرد، ربما كان سردُ الفرد قد فقد جاذبيته من اليسار مُتعدد الثقافات، لكنه أيضاً لم يعد هو القصة الرئيسية التي يقولها الليبراليين، خارج سياقها الثقافي
القيم اليبرالية تربط بين المخاوف تجاه البشرية وتطلعاتنا إلى الفرد، ربما كان سردُ الفرد قد فقد جاذبيته من اليسار مُتعدد الثقافات، لكنه أيضاً لم يعد هو القصة الرئيسية التي يقولها الليبراليين، خارج سياقها الثقافي

ومن المثيرِ للاهتمام أنهم ينسبون هذا الانحطاط إلى السياسة الأمريكية المُحافِظة المُفرطة، لكن ما يرددونه في النهاية هو تراجعُ الفردية، إن لم يكن في الليبرتارية، بمعنى التنوير، كان تحديد الهوية مع الأمة دائما مبدأ أساسياً للمواطنة. ترتكزُ فكرةُ المواطنة، وهي فكرةُ التنوير، على الاعتراف بالوكالة الفردية وحق الفرد، في أن يكون له رأي في حكومته، وأن يحدد وجهة نظره. غير أن التاريخ يُبين لنا أن القيم الليبرالية الحقيقية، لم تكُن أبداً، دون جاذبيتها لتعدد الثقافات.

إن الفردانية الوعرة المتمثلة في التحررية (مع تركيزها على الحكومة، ونزعة السوق الحرة وعدم مبالاتها التاريخية، تجاه محن المحرومين) لا تروقُ إلى اليسار الثقافي. كما لا ينطبق ذلك على النيوليبرالية التي يصفها السياسيّون بأنها “مموّلة ومخصخصة ومُعسكرة“. كان مارتن لوثر كنغ نتاج التقاليد الغربية، ومع ذلك، قال أيضاً: “إن الفرد لم يبدأ العيش حتى يتمكن من الارتقاء فوق الحدود الضيقة لاهتماماته الفردية، نحو المخاوف الأوسع للبشرية جمعاء“. لا يمكن أن تُوجّد الليبرالية خارج السرد الثقافي، لكن السرد الفلسفي يمكن أن يمتد إلى العديد من الثقافات، وقد فعل السرد الليبرالي الفلسفي ذلك.

إن القيم اليبرالية تربط بين المخاوف تجاه البشرية وتطلعاتنا إلى الفرد، ربما كان سردُ الفرد قد فقد جاذبيته من اليسار مُتعدد الثقافات، لكنه أيضاً لم يعد هو القصة الرئيسية التي يقولها الليبراليين، خارج سياقها الثقافي (أو المربوطة في سياق متجانس). الفردانية مجرد نظرية محدودة في قابليتها، لكنها مع الليبرالية: “فردانيّة التجربة”. السؤالُ الذي يَجِبُ أن نتحول إليه: كيف يمكننا أن نضع الفردانيّة في قَلبِ الهويّة الجماعيّة، دُونَ الإضرار أو النزوعِ المتطرف لأيٍ منهما؟ 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.