شعار قسم مدونات

ترمب ومحاولة ذبح الاقتصاد التركي

BLOGS أردوغان وترمب

بعيدا عن نظرية المؤامرة الطوباوية، فقد أصبح من الجلي أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى للسيطرة على العالم بأكمله. فبدأ بمخطط مارشال الذي كان يهدف إلى تحويل دول أوروبا الغربية إلى سوق للمنتجات الأمريكية، وصولا إلى النظام العالمي الجديد الذي أصبح فيه بلد العم سام يطمح إلى أن يولّي العالم أجمع وجهه شطر واشنطن، تجلى الآن وبوضوح أن أمريكا، خصوصا مع رئيسها المتغطرس ترامب، مصابه بجنون العظمة.

في كتابه "اعترافات قرصان اقتصادي Confessions of an Economic Hit man" أو قاتل اقتصادي إن صحت الترجمة، يؤكد جون بركينز الخبير الاقتصادي الأمريكي على دور (الكوربوراتوقراطية)، أي المنظومة الاقتصادية والسياسية التي تخضع لمراقبة اتحاد الشركات الأمريكية الكبرى مع الهيئات الحكومية، بهدف السيطرة على ثروات الدول النامية وتأسيس إمبراطورية عالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. يعترف هذا الخبير، حسب المهام التي اسندت إليه هو وأمثاله من الخبراء في الشركات الاستشارية الأمريكية، بدورهم في تضليل المؤسسات المالية العالمية من خلال تقارير اقتصادية مغلوطة، تٌمنح على إثرها قروض مالية ضخمة للدول النامية، يكون سدادها مع خدمة الديون أمرا مستحيلا، وهذا بهدف توريط هذه الدول في لعبة سياسية تٌخضعها فيما بعد لشروط تخدم مصالح (الكوربوراتوقراطية).

يشرح بركينز كيف ورط القراصنة الاقتصاديون، وهو واحد منهم، دول مثل الأكوادور، جواتيمالا، بانما وأندونيسيا في مشاريع انمائية كبيرة تستفيد من انجازها الشركات الأمريكية الكبرى، وتٌغرق هذه الدول في ديون لا قبل لها بتسديدها. يقول هذا الخبير أن اللغة كانت واحدة من بين الخدع التي استخدموها، فابتكروا مصطلحات مثل " الحكم الرشيد، تحرير التجارة وحقوق المستهلك…"، لتغليف استراتيجياتهم في النهب الاقتصادي. اعتمدت هذه الإمبراطورية، على حدّ قول هذا الخبير، على كون الدولار عملة قياسية دولية، وأن الولايات المتحدة الأمريكية هي من تملك حق طبع العملة وبالتالي هي من تتحكم في القروض الممنوحة.

  

تركيا رفضت أن تشارك فيما أسموه بـ صفقة القرن "، كما رفضت أن تكون دولة تابعة لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، فالسياسة التركية هي سياسة فاعلة وليست منفعلة

يقول بركينز في اعترافاته "العنصر الخفي في كل هذه المشروعات هو أنها صٌممت من أجل خلق أرباح طائلة لشركات المقاولات، ولإضفاء السعادة على حفنة من العائلات الغنية ذات النفوذ في البلاد المتلقية للقروض. بينما ترسِّخ هذه المشروعات للتبعية الاقتصادية، وبالتالي الولاء السياسي من هذه الحكومات في جميع أنحاء العالم، وكلما ازدادت قيمة القرض كان أفضل".

 
جاء في اعترافاته كذلك أن الخطة المتبعة من قبل (الكوربوراتوقراطية) في توريط وإفلاس الدول النامية كانت تقتضي أن تكون البداية مع قراصنة الاقتصاد، فإذا فشلوا في مهمتهم، وهو أمر مستبعد، تدخّل فريق آخر كانوا يسمونه " الثعالب " هؤلاء هم رجال المهام القذرة الذين لا غنى عنهم لمن يسعون للهيمنة، وهم عملاء أجهزة المخابرات. أما إذا حدث وفشل الثعالب ففي هذه الحالة يأتي دور الجيش، فتٌخلق الذرائع والأسباب وتٌشّن حرب على الدولة المعنية، كما حدث في العراق.

كان هذا في ستينات القرن الماضي، فما عساه أن يكون في الألفية الثالثة، في عصر الأقمار الصناعية والتكنولوجيا الرقمية واقتصاد المعرفة. كان قراصنة الاقتصاد وعملاء المخبرات يخضعون لدورات تكوينية مكثفة وتدريب على أعلى مستوى، هذا زيادة على تمكنهم وتأهلهم الفطري، على حدّ قول الخبير. الآن، وفي الوقت الذي أصبحت فيه تقنيات العميل السري " جيمس بوند " من الأساليب البدائية، كيف يمكن أن نتصور الآليات الشيطانية التي تستخدمها أمريكا لإخضاع الدول المتمردة على سياستها؟

وظفت الولايات المتحدة الأمريكية، بمعية حلفائها العرب، كل ما لديها من استراتيجيات ومكر ودهاء، لا لضرب تركيا وإنما للقضاء على حزب العدالة والتنمية الإسلامي
وظفت الولايات المتحدة الأمريكية، بمعية حلفائها العرب، كل ما لديها من استراتيجيات ومكر ودهاء، لا لضرب تركيا وإنما للقضاء على حزب العدالة والتنمية الإسلامي
  

لأن تركيا رفضت أن تشارك فيما أسموه بـ صفقة القرن "، كما رفضت أن تكون دولة تابعة لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، فالسياسة التركية هي سياسة فاعلة وليست منفعلة. الأتراك حققوا بالفعل نهضة اقتصادية واجتماعية أثارت حفيظة الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا. تركيا اصبحت تٌصنف من الدول الصناعية الجديدة، وهي تسعى لأن تكون قوية اقتصاديا وعسكريا وواشنطن تعمل على تعطيل هذا المسعى، وأزمة الليرة التركية دليل قاطع على هذه المؤامرة، فقد أصبح من الجلي أن الذين ساهموا في ترويج الشائعات بخصوص التدخلات الجائرة للدولة في حسابات الشركات والمقاولات، الشيء الذي أحدث هلعا لدى عامة المواطنين وتسبب في الانخفاض المفاجئ لـليرة التركية أمام الدولار الأمريكي، هم قراصنة اقتصاديون يعملون لصالح (الكوربوراتوقراطية)، ويحاولون تقليم أجنحة حزب العدالة والتنمية الحاكم بعدما أخفقوا في محاولاتهم الانقلابية.

لقد تنبأ المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي بسقوط القطب الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفيتي لعدم وجود سند ديني يدعم أيديولوجيته، وبان الصراع في المستقبل سيكون بين المسيحية والإسلام. ولا غرو إذا قلنا أن ألدّ خصم للولايات المتحدة الأمريكية الآن هو الإسلام، وأن هذه الأخيرة تخشى من أنقرة أكثر من خشيتها من إيران، لأنها تعلم أن الإسلام الحداثي، في شكله التركي، هو من يشكل خطرا حقيقيا على الإمبراطورية العالمية المزعومة. أما السعودية وباقي الدول الإسلامية الضعيفة فقد دجنتهم بثقافتها المهيمنة، واستنسخت إسلاما أقرب ما يكون إلى اليهودية منه إلى الحنيفية السمحة. حتى وإن كانت تركيا حليفا لأمريكا وعضو في حلف الناتو، إلا أنها تنتهج سياسة تطمح من خلالها إلى التحرر من الهيمنة الغربية، والأمريكية على وجه الخصوص، وبالتالي فهي لا تخدم مصالح (الكوربوراتوقراطية). ثم إنها دولة تسعى لأن يكون لها دورا أساسيا في قضايا القوقاز والبلقان والشرق الأوسط.

وظفت الولايات المتحدة الأمريكية، بمعية حلفائها العرب، كل ما لديها من استراتيجيات ومكر ودهاء، لا لضرب تركيا وإنما للقضاء على حزب العدالة والتنمية الإسلامي الذي يرمز بالنسبة للإمبريالية الغربية إلى الإمبراطورية الإسلامية، التي طالما خشي الغرب المستعِمر من أن تستفيق من غيبوبتها وتستعيد مجدها وعظمتها. أعتقد أن الذي يخشاه الرئيس الأمريكي حقيقة هو الثقة التي يضعها الشعب التركي في رئيسه، والتي تجلّت في موقف الشعب من انقلاب 2016. أما ما يٌرعب المسعور ترامب فهو أن يتحول أردوغان إلى قائد ملهم يستحوذ على مشاعر غالبية المسلمين في كل أنحاء العالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.