شعار قسم مدونات

المُعاق العربي.. بين سوء الإدارة وخلل التشريع!

blogs قعيد

تلك الفئة، التي تراها يومياً، في المستشفيات، في المؤسساتِ الحكومية، وحتى في الشوارع، هم يلفتونكَ دائِماً بشكلٍ لا إرادي، إما لعيبٍ خلقي، أو لحركةٍ خاطئة، أو بتصرفٍ غير مألوف، فترمقهُم أنت-لا شعورياً- بنظرةِ استغراب تمزقُ مشاعرهم، فكلمّا حاولوا أن يعيشوا طبيعيين مثلي ومثلَك، تأتي نظراتنا لتهدمَ كل محاولاتهم، وتُحطم إرادتهم.. هم من يطلق عليهم علمياً ذوي الاحتياجات الخاصّة، أو المعاقِين، وفي منطقةٍ غريبة، لا تزيدُ قيمةُ حقوقِ الإنسانِ فيها عن قيمة الإنسانِ نفسه، وكلاهُما لا يساوي ثمن حِذاءٍ في بعضِ الأحيان، قد يثورُ التساؤل، وقد يدفعكَ الفضول، لمعرفةِ الوضع القانوني والفعلي لهذه الفئة، كيف تعيش؟ وهل تعترف الدولة بها؟ وهل يتقبُلها المجتمع؟ 

في هذه المنطقةِ بالتحديد، إذا ألقيتَ نظرةً على وضعِ هذهِ الفِئة للوهلةِ الأولى، ترى الأصواتَ تتعالى كثيراً، للحديثِ عن هذهِ الفئةِ وحقوقِها، كما تجدُ سقوفاً عاليةً تُخترقُ دفاعاً عن هذهِ الفئة، كما ترى المؤتمراتَ والحفلاتِ الخيرية والمُبادرات التطوعية، فضلاً عن وجودِ هيئاتٍ ومؤسساتٍ ومجالسَ قائمةٍ فقط لأجلِ رعايةِ هذهِ الفِئة، وتسهرُ على رعايةِ مصالحِها، ولرأيتَ أُناساً كُثُر يمسِكُونَ مكبراتِ الصوت وينبذُونَ ويرفضونَ رفضاً قاطعاً أي ضربٍ من ضروبِ التمييز ضدّ هذهِ الفئة، ويخطبونَ فينا عن الإنسانيةِ والتعايش، كل هذهِ الأمور التي إذا ما نظرتَ إليها سريعاً، حسدتَ هذه الفئة على الكمِّ الهائل منَ الاهتمامِ التي تحظى به، ولكن إذا تعمّقتَ قليلاً في نظرتِك، لن تجِد سوى فراغ يدورُ في فراغ، وعدم يدورُ في عدم، واستغلال شنيعٍ لهذهِ الفئة لغاياتِ تحقيقِ الشُهرة والمنافعِ المادّية والمعنويةِ، وتهميشٍ فوقَ التهميش، ينتهكُ حقوق هذهِ الفئة، فلكَ أن تتخيلَ عزيزي القارِئ؛ الوصفَ الذي يستحقّهُ من يركَب على همومِ هذهِ الفئة، وهو يعلمُ أنهم لا حول لهَم ولا قوّة.

راجع إحدى المؤسساتِ المعنية بشؤون المعاقين، ستجدُ آلافاً مؤلفة من الصورِ للمعاقين وذويهم، حتى يقنعوكَ بمدى اهتمامهم بهذه الفئة، والحقيقة أن اهتمامهم لا يتجاوزُ الحائط َالذي علقت عليهِ تلكَ الصور

ففي الدولِ العربيةِ خصوصاً، أول ضربٍ من ضروبِ العنصريةِ التي تمارس ضدّ هذهِ الفئة، هو تنظيمهُم في قوانينَ مستقلة، لا من بابِ التفضيل، بل وكأنهُّم شيءٌ شاذ عن المجتمع ككُل، ولن تجِدَ في هذهِ القوانين ما يثلج صدرك، كل ما تحتويهِ هو كلام ٌمكررٌ ونصوصٌ جامدةٌ لا تمنحُ هذهِ الفئة أي شيءٍ يحميها أو يسنُدها، لا بل تتجاوزُ الجمودَ التشريعي إلى الخللِ التشريعي، ولنا في الأردن مثال؛ عندما صدر قرار منَ المجلسِ الأعلى لشؤونِ الأشخاصِ المعاقين ينصُ على إلغاءِ كافةِ الإعفاءاتِ من رسومِ مراكزِ الرعايةِ الداخليةِ الإيوائية، حيثُ أصبحَ هذا المجلِس غيرَ مختصٍ بمنحِ إعفاءاتٍ للفئةِ التي نشأ من أجلها من الأساس، مع العلمِ أن هذه الجِهات تتلقى الدعمَ الكبير فقَط لأنها تمثل هذهِ الفئة، ومع العلم أنه لم يصدر أي تسبيبٍ منطِقي يبررُ قرارَ إلغاءِ الإعفاءات. 

وهذهِ نتيجةٌ طبيعية عندما تكونُ تشريعاتُ الدولِ ومبادئِها وقوانينُها توضعُ على أساسِ النسخِ واللصق من القوانينِ الأجنبية، دونَ النظرِ الى المجتمعِ وظروفه، وكيانُ الدولةِ ككُل، فكأنَّ القائمَ على التشريعِ لم يدرُس في كليةِ الحقوقِ أنّ "القانون مرآة المجتمع"، لا بل جاءَ بالمرآةِ الزجاجيةِ وكسَّرَها على رأسِ المجتمعِ بتشريعٍ لا تمتُ للواقعِ بأيِ صِلة، وآخرُ الكوارثَ التشريعية النصُ في "قانون حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة الأردني" على دمجِ هذهِ الفئاتِ كلها، دمجاً إجبارياً في المجتمع، حيث نص صراحةً على إلغاءِ كافةِ مراكِز الرعايةِ الداخليةِ للمعاقين خلالَ عشرة ِسنوات.

والعلة من هذا النص المنسوخ حرفياً عن قانونٍ أجنبي، هو التمهيدُ لدمج المعاقين في المجتمع، لكن يبدو أن القائمَ على التشريعِ لم يكن لديهِ القدرة على التمييزِ بين المعاقِ حركياً، الذي يعاني من مشاكلَ في الحركةِ فقط، وبين المعاقِ عقلياً الذي يعاني من مشاكلَ عقلية ،كما أنه سهى عن المجتمعِ الذي يتحدث عنه، تماماً كما سهى عن البُنية التحتية المُحيطة به، فهل هذه ِالبنية التحتية مؤهلة لاستقبال المعاقين؟ هل يستطيعُ المعاق ركوبَ المواصلاتِ العامةِ الهشة؟ هل يستطيعُ مراجعة َالدوائرِ الحكومية وهيئات القطاع العام التي تنهشها البيروقراطية بمفرده؟ هل يستطيعُ التنقل في الشوارع والطرقاتِ بأريحية؟ في ظل حفرٍ منتظمة، وشوارع منتهيةِ الصلاحية، ومجتمعٍ لا يمكنُ له تقبله بأي حال من الأحوال.

وإذا سلمنا بوجودِ البنية التحتية –المُجمع على عدمِ وجودها- هل يمكنُ للمعاقِ عقلياً أن يندمج في المجتمع؟ هل تم اللجوء إلى أهل الخبرة وسؤالهم عن إمكانيةِ اندماج المصابِ بإعاقةٍ عقليةٍ في المجتمع؟ لو تم سؤالهم لأجمعوا على قول "لا"، فكيف يجبرُهُ القانون على الاندماج وهو لا يريدُ ذلك؟ وكيف يحرمهُ من الحقِّ في الرعاية؟ من خلال إلغاءِ كافةِ دورِ الرعاية الحكوميةِ والخاصة، لا بل أن واضعَ القانون أقرَّ صراحةً بعدمِ قدرةِ المصابِ بإعاقةٍ عقليةٍ على الاندماج في المجتمع، حيث أحالهُم إلى دورِ رعايةِ الأطفالِ ودورِ رعايةِ المسنين، ولا نعلم سببَ حرمانِ هذا الشخصِ من الرعايةِ التي تليقُ به، والتي تختلفُ كلياً عن الرعاية التي يحتاجُها الطفل أو تلك التي يحتاجُها كبير السن.

ما يحتاجهُ المعاقُ من الدولة ومن المجتمع، حق طبيعيٌ ثابتٌ لا نقاشَ فيهِ ولا جدال، وهذهِ المشكلةِ التي يواجِهُهَا المعاقُ في العالمِ العربي، لا ترجعُ إلا لسببينِ رئيسيينِ، هما سوءُ الإدارةِ وخللُ التشريع
ما يحتاجهُ المعاقُ من الدولة ومن المجتمع، حق طبيعيٌ ثابتٌ لا نقاشَ فيهِ ولا جدال، وهذهِ المشكلةِ التي يواجِهُهَا المعاقُ في العالمِ العربي، لا ترجعُ إلا لسببينِ رئيسيينِ، هما سوءُ الإدارةِ وخللُ التشريع
 

كل هذا الإجحافِ الذي لحقَ وما زال يلحق بهذه الفئة، يصعُبُ عليكَ أن تراهُ إلا في طياِت القانون، فحاوِل أن تراجع إحدى المؤسساتِ المعنية بشؤون المعاقين، ستجدُ آلافاً مؤلفة من الصورِ للمعاقين وذويهم، حتى يقنعوكَ بمدى اهتمامهم بهذه الفئة، والحقيقة أن اهتمامهم لا يتجاوزُ الحائط َالذي علقت عليهِ تلكَ الصور، ولا ندري ما تعريفُ الاهتمام لدى هذه الجهاتِ عندما تتخلى عن منحِ المعاق إعفاءاً مالياً حتى يوضع في أي مركز رعاية خاص يضمنُ إنسانيته فقط، في ظل غياب تام للمرفقِ الحكومي، وإذا حاولتَ أن تحضرُ مؤتمراً لشؤونِ المعاقين، لن تجدَ سوى الكلام النموذجي والتبرعات التي تأخذ دور مسكِّن الألم، ولا تأخذ دورَ العِلاج، فضلاً عن التشهيرِ بالمعاقِ وعائلتهِ من أجلِ بعض الدنانير.

إن هذه المعضلةِ القانونيةِ والإداريةِ والاجتماعية، ليست سِوى نتيجةٍ طبيعيةٍ لمذهبٍ اقتصادي غير واضح، فكأنك تعيشُ في أوجِ عصر الشيوعية حيث تُجبرُ على المرفق الحكومي وحده، وإلا فالعصا لمن عصى، كما أنها نتيجةٌ حتميةٌ لسوءِ الإدارة، وأخيراً فهي ليست إلا خللاً تشريعياً لإداراتٍ أخذت على عاتقها أن تنسَخ وتلصِق النصوصَ القانونية دونَ حتى أن تنظر إلى المجتمع الذي تعيشُ فيه، فعندما يتجاور التشريع مع الإدارة في برجين من العاج، يصعبُ على كل منهما أن يعالج أي مشكلةٍ على الأرض، فكيف تحل مشكلةً في الأرضِ وأنت لا ترى الأرضَ من الأساس؟

وحيث أنهُ من البديهي أن نشيرَ إلى أن مثلَ هذهِ القوانين، ومثل هذه الممارساتِ الإدارية، تنتهكُ دستورَ الدولةِ ذاتها من حيث المساواة، فضلاً عن انتهاكها لكافةِ مواثيقِ حقوقِ الإنسان، ولكن الانتهاك الأكبر، يكمنُ في التعامل مع الحقوق الثابتة والحاجات الأساسية، على أنها منحة أو مكرمة، فهذهِ الطامَّةُ الكبرى والكارثةُ الحقيقية، فما يحتاجهُ المعاقُ من الدولة ومن المجتمع، حق طبيعيٌ ثابتٌ لا نقاشَ فيهِ ولا جدال، وحيث أن مثلَ هذهِ المشكلةِ التي يواجِهُهَا المعاقُ في العالمِ العربي، لا ترجعُ إلا لسببينِ رئيسيينِ، هما سوءُ الإدارةِ وخللُ التشريع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.